التجربة الديمقراطية في المغرب: الآفاق، ال
• ما جوهر الديمقراطية؟ وهل العلمانية ضرورة لقيام الديمقراطية داخل أمتنا وفي بلادنا؟ ألا يوفر الإسلام شروطا أفضل لتبيئة سليمة للديمقراطية في واقع أمتنا؟ وهل يتعارض الإسلام مع الحريات الاعتقادية والسياسية؟
• ماذا يعني التحول الديمقراطي؟ وهل تستجيب التجربة المغربية لشروط ومتطلبات ومعايير الانتقال الديمقراطي؟ وفي كل الحالات، ما هي آفاق التحول الديمقراطي و ممكناته؟ ما هي الرهانات؟ وما هي المهام؟
أسئلة وأخرى ستكون مدار هذه المساهمة، والله ولي التوفيق.
I – الديمقراطية: في الماهية والجوهر، وقضايا نظرية
1 – ثمة شبه إجماع على أنه ليس هناك تعريف محدد ومتفق عليه للديمقراطية يمكن اعتماده واستعماله، ففي "قاموس السياسة" نجد للديمقراطية التعريف التالي: "إن الديمقراطية هي المصطلح الأكثر تقديرا والأكثر غموضا من بين المصطلحات السياسية في العالم المعاصر.." أما الأستاذ جو خال فيقول: "إن كلمة الديمقراطية معروفة للكل، ولكن قد لا يستطيع أحد أن يعرف الديمقراطية بجملة أو اثنين، هنا يوجد مصطلح يبدو في الظاهر من السهل أن يفهم، ولكنه في الواقع من الصعب جدا أن يعرف وأن يفسر بوضوح وشمول".(1)
2 – وسيعرف مفهوم الديمقراطية تطورات عدديدة، ولعل هذا ما دعا عالم الاجتماع توكفيل للدعوة "إلى إنشاء علم يعنى بتطور الديمقراطية".(2)
ويعتبر تجاوز المفهوم الأثيني من أبرز ما عرفه المفهوم من تطورات، والمفهوم الأثيني يعرف بالديمقراطية المباشرة، و "تتلخص في اجتماع كل الشعب في مكان واحد لإقرار القوانين واتخاذ القرارات الهامة"(3). ولذلك كانت في نظر شومبتير "غير واقعية"(4). أما بوتومور فيرى أن "الديمقراطية المباشرة غير ممكنة"(5). وهذا هو مذهب الجابري أيضا حيث يقول: "أن تعريف الديمقراطية على أنها "حكم الشعب نفسه بنفسه" هو تعريف لا يمكن أن يوجد له مجال للتطبيق إلا في إحدى تلك المدن الفاضلة التي وجد فيها متخيلوها نوعا من الملجأ هربوا إليه في متاهات عالم الفكر عندما لم يجدوا في عالم الواقع أية إمكانية لتطبيق آرائهم ومثلهم"(6).
3 – وسيستقر مفهوم الديمقراطية اليوم على أنها "شكل في الحكم" أي صيغة وآلية كما يذهب لذلك توكفيل. وفي هذا الإطار، يميز بوتومور بين "مفهومين للديمقراطية: المفهوم الدستوري الضيق الذي يتخلص بإعطاء الحق لكافة المواطنين البالغين في اختيار قادتهم السياسيين عن طريق الانتخابات الحرة. والمفهوم الأوسع الذي يعتبرها وضعا يساهم في كافة المواطنين ويشجعون على المساهمة بأكبر قدر ممكن في تنظيم حياتهم الاجتماعية بأسرها"(7). أما ماكس فيبر، فيعتبر الديمقراطية "مجرد وسيلة لاختيار القادة السياسيين"(8). اما شومبتير فيرى أن الديمقراطية "مجرد منافسة على القيادة السياسية"(9). أما الجابري فيرى الديمقراطية في العصر الحديث "مرتبطة بفكرة الانتخابات... ولكن لكي يكون الانتخاب انتخابا حقيقيا يجب أن يبنى على أساس المساواة في الإمكانيات والوسائل"(10)، ليخلص في النتيجة إلى القول بأن "القضية ليست قضية انتخاب وإنما قضية صراع ونضال"(11).
أما برهان غيلون فيرى أن مفهوم الديمقراطية كما يستخدم اليوم يشير إلى معنيين: "المعنى الأول هو نظام القيم الذي ارتبط بفكرة الحرية (بما هو) نظام سياسي قائم على مبدأ كفالة الحريات وضمانها. وهذا هو مضمون الثورة السياسية الحديثة وأصل المواطنة... أما المعني الثاني الذي يشير إليه مفهوم الديمقراطية فهو النظام السياسي النابع من استلهام قيمة الحرية كمبدأ وقيمة اجتماعية عليا جديدة ينبغي أن تخضع لها ممارسة السلطة... وهكذا، سيتبلور مفهوم الديمقراطية كسلطة لا يمكن أن تحظى بالشرعية أي أن تنال قبول الأفراد المواطنين وولائهم إلا بقدر ما يضمن نظامها الحريات ويكفل ممارستها. إن نظام الديمقراطية لا ينشئ الحريات ولكنه يكفلها ويكفل ممارستها"(12).
أما الدكتورة ثناء فؤاد عبد الله فتعتبر الانتخاب "قاعدة النمط الديمقراطي"(13)، بناء على كون "أكثر التعريفات شيوعا للديمقراطية يساوي بينها وبين الانتخابات التي تجري بنزاهة ويتم عد الأصوات فيها بأمانة"(14). وتواصل قائلة: "أن ما يميز الحكم الديمقراطي عن الحكم غير الديمقراطي هو معيار كيفية الوصول إلى السلطة والممارسات التي تجعل الحكام مسؤولين عن أفعالهم"(15).
4 – أما من حيث الدلالات الواقعية، فتشير ثناء عبد الله إلى أن النمط الديمقراطي يتضمن عناصر رئيسية وهي: "تعيين الحكام بالانتخاب الشامل ووجود برلمان يملك صلاحيات واسعة وترابية القواعد القانونية التي تضمن رقابة قضاة مستقلين للسلطات العامة". وذلك بهدف "منع السلطة السياسية من الاستحواذ عن القوة الزائدة عن الحد... للحفاظ على حريات المواطنين"(16).وتحدد جوهر الديمقراطية وروحها في النقاط التالية: "احترام حقوق الإنسان، التعددية السياسية وإمكان تداول السلطة شرعيا وسلميا" (17). ويذهب الجابري نفس المذهب تقريبا حينما يحدد معنى الديمقراطية من المنظور الواقعي أثناء تداوله لإشكالية الانتقال الديمقراطي فيما يلي: "إنها نظام سياسي اجتماعي اقتصادي يقوم على ثلاثة أركان: حقوق الإنسان... المؤسسات... وتداول السلطة... على أساس حكم الأغلبية مع حفظ حقوق الأقلية"(18). أما "الحد الأدنى من الإجراءات التي يجب توفرها من أجل الديمقراطية السياسية الحديثة، فقد عرض روبرت دال أكثر قوائمها قبولا، وهي: أن ينص الدستور على تخويل المسؤولين المنتخبين حق مراقبة قرارات الحكومة الخاصة بالسياسيات، أن يتم اختيار المسؤولين المنتخبين عن طريق انتخابات دورية تجري بنزاهة ولا يكون للقسر فيها دور كبير، لا بد أن يكون لكل البالغين الحق في التصويت لانتخابات المسؤولين في الحكومة، لا بد من أن يكون لكل البالغين الحق في الترشيح للمناصب التي يتم شغلها بالانتخابات في الحكومة، المواطنون لهم حق التعبير عن أنفسهم دون أن يكون هناك تهديد بفرض عقوبات شديدة على القضايا السياسية التي تم تعريفها على نطاق واسع، المواطنون لهم الحق في البحث عن مصادر بديلة للمعلومات لا بد من أن تكون موجودة وتتمتع بحماية القانون، المواطنون لهم أيضا الحق في تشكيل اتحادات أو منظمات مستقلة نسبيا بما في ذلك الأحزاب السياسية ومجموعات المصالح"، وتضيف ثناء فؤاد شرطين آخرين إلى هذه الشروط السبعة وهما: "لا بد أن يكون المسؤولون المنتخبون قادرين على ممارسة سلطاتهم الدستورية... ولا بد أن تحكم الحكومة نفسها"(19).
5 – طبعا، لم تكن كل هذه المقدمات والتوضيحات النظرية والمفاهيمية مجرد استغراق مفهومي عبثي. في نظرنا، لقد كانت ضرورية وهامة لتناول ثلاث قضايا شديدة الصلة بموضوعنا، وهي:
القضية الأولى: إذا كان "سلطان كلمة الديمقراطية من القوة بحيث أن أية حكومة وأي حزب لا يمكن تصور بقائهما بدون كتابة هذه الكلمة على رايتهما"، كما يذهب إلى ذلك أرتر كيش (20)، فإنه يصبح من الضروري توضيح حقيقة الديمقراطية في الواقع أي توضيح علاماتها وتجلياتها حتى لا تدعي جهة ما، ما ليس لها، وهذا ما تحققه تلك المقدمات والتوضيحات النظرية والمفاهيمية بشكل مباشر.
القضية الثانية: تتعلق بالإجابة على سؤالين جوهريين: هل العلمانية ضرورة لقيام الديمقراطية داخل أمتنا وفي بلادنا؟ وألا يوفر الإسلام شروطا أفضل لتبيئة سليمة للديمقراطية في واقعنا؟ والهدف طبعا هو إزالة الالتباسات من جهة، وتجاوز أحد العوائق الفكرية والايديولوجية التي أخرت تحقيق المطلب الديمقراطي داخل الوطن العربي والإسلامي.
القضية الثالثة: تتعلق بمساءلة التجربة المغربية في ضوء تلك التحديدات النظرية والمفاهيمية وبالنتيجة تبرير مشروعية الحديث عن معنى التحول الديمقراطي وعن مقتضيات ومعايير الانتقال الديمقراطي.
5 – 1: هل العلمانية ضرورة لقيام الديمقراطية داخل أمتنا وفي بلادنا؟
إن القول بأن "كل كلام عن الديمقراطية وعن الحرية في غياب العلمانية يصبح ضربا من اللغو" (21) هو قول مجانب للصواب وتعوزه الأدلة والبراهين ويمكن تفنيده بتقديم الاعتبارات التالية:
الاعتبار الأول: مفهوم الديمقراطية وما استقر عليه اليوم، فهو لا يقتضي العلمانية ولا يشترطها.
الاعتبار الثاني: أنه إسقاط لا مبرر له في واقع أمتنا، فإذا كانت السياقات والملابسات التاريخية لميلاد العلمانية في الغرب تمثلت في الرد علة سلطات الإكليروس والبابوات الاستغلالية، فإن طرح شعار العلمانية في عالمنا الإسلامي وداخل أمتنا لا يعبر عن حاجة موضوعية، كما يذهب لذلك الجابري الذي تعني عنده العلمانية "جعل الحياة العامة غير خاضعة لسلطة الدين ورجاله". والحال أن الإسلام لا يبرر ولا يدعو لرجال الدين بالمعنى الذي عرفته الكنيسة أو بغيره.
إن طرح العلمانية داخل أمتنا كان سيكون مبررا لو انعقدت الشروط الثلاثة التالية مجتمعة: وجود رجال دين ذوي هيمنة ونفوذ وصلاحيات لا متناهية، وجود أقليات دينية مضطهدة ووجود إكراه ديني أو اعتقادي أو سياسي. والحال أن ليس في الإسلام رجال دين حتى يهيمنوا، كما أن الإسلام ضمن حقوق الأقليات الدينية، وباعترافها لم تشهد الأقليات الدينية حرية كما شهدتها داخل أمتنا. أما الإكراه، فهو من أشد ما طالب الإسلام بمقاومته، حيث توالت آيات القرآن الكريم مدوية: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) الآية، (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) الآية، (لا إكراه في الدين) الآية. وقد ورد في نزول هذه الآية الأخيرة أنها نزلت في قوم أرادوا تحويل أبنائهم قسرا من اليهودية إلى الإسلام، فنزلت الآية داعية إلى رفض الإكراه في الدين ليبقى أولائك على يهوديتهم.
الاعتبار الثالث: طبيعة نظام الحكم في الإسلام وعلاقة الديني بالسياسي.
"لم يختلف أقطاب الفكر السياسي الإسلامي وخاصة منهم المتكلم والفقيه حول ضرورة السلطة ووجودها بل اختلفوا في شروطها" (22) ومع "اتفاقهم على ضرورتها ووجوبها، فإنهم قد اتفقوا – خلاف الشيعة – على أنها من الفروع وليست من أصول العقائد ولا من أركان الدين. فهي واجب مدني اقتضاه ويقتضيه الواجب الديني المشتمل على تحقيق الخير للإنسان في هذه الحياة" (23). ولذلك، كانت الدولة في الإسلام "دولة مدنية مرجعها الإسلام: إنها ليست دولة دينية أو ثيوقراطية تتحكم في رقاب الناس أو ضمائرهم باسم الحق الإلهي" (24). والحاكم في النظام السياسي الإسلامي لا يتم تعيينه بل يتم اختياره، وهذا هو المذهب الإسلامي الشرعي والراجح في فكرنا السياسي الإسلامي. ولذلك، قال ابن تيمية تعليقا على تولية عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن عمرا صار إماما بمبايعة الناس لا بمجرد عهد أبي بكر له بالخلافة"(25)، مؤكدا من خلال ذلك على أمرين هامين: أولهما، أن ولاية العهد في النظام السياسي الإسلامي ما هي إلا اقتراح وترشيح، وثانيهما أن السلطة للأمة في اختيار حكامها وولاتها.
ومن جانب آخر، فقد ورد في نص تولية أبي بكر رضي الله عنه قولة جامعة في اجتماع السقيفة: "أما بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم". إن قراءة هذا النص تسمح لنا باستخلاص ما يلي: أولا، أن أبا بكر رضي الله عنه كان يكرس مبدأ المساواة بين الحاكم والمحكوم (لست بخيركم)، ثانيا، أنه كان يقول بالدولة القانونية وباحترام المشروعية كشرط للشرعية، وثالثا أنه رضي الله عنه يستدعي المعارضة للقيام بواجبها في مواجهة أي منكر أو انحراف أو تجاوز من قبل السلطة السياسية التي كان يمثلها، ولم يكن فقط يجيزها كما هو سقف الأنظمة الديمقراطية اليوم.
ومن الضروري أن نشير هنا إلى توضيح أساسي يتعلق برفع الالتباس الحاصل بين النظام السياسي الإسلامي كما هو في أصالته وجوهره وبين النظام السلطاني الذي ساد ردحا من الزمن داخل أمتنا، والذي كان نظاما استبداديا قام على القهر والغلبة بعد أن تمكن الحكام السلاطين المتغلبون من إقصاء الأمة وإلغاء حصتها في السلطة السياسية. ولذلك كان الأجدر في نظرنا أن نبحث في الجذور التاريخية لأزمة أمتنا السياسية المعاصرة أي في الأسباب التي قادت إلى إقصاء الأزمة وغياب الحرية والعدل والشورى وانتصار الغلبة والاستبداد، كما اتجه لذلك كثير من الباحثين (26) بدل السقوط في مطب المقاربة الإسقاطية.
الخلاصة: إذن هي أن طرح العلمانية داخل أمتنا طرح لا تاريخي لأنه فضلا عن طبيعته الإسقاطية، فهو يتأسس عن ضعف معرفة وتحصيل بطبيعة النظام السياسي الذي أسسه وطبيعة الواقع الحضاري التاريخي لأمتنا. وكما أنه طرح لا تاريخي، فهو طرح اللاهوتية، يقطع واقعيا وعمليا مع حضارتنا وتراثنا انطلاقا من فهم محدود لا يرى علاقة بين الديني والسياسي في الإسلام، وهو ما تدحضه حقائق التاريخ ووقائعه الراسخة. ولهذه الاعتبارات، فهو لا يقدم الإطار المناسب لتبيئة الديمقراطية في واقعنا، بل لربما كان طرحها (أي العلمانية) واحدا من عوامل تأخر المطلب الديمقراطي.
5 - 2: وعليه، ألا يوفر الإسلام شروطا أفضل لتبيئة سليمة للديمقراطية في واقع أمتنا؟ وهل في الإسلام ما يتعارض ومبدأ الحريات الاعتقادية والسياسية؟
مع التأكيد على أن الموضوع يحتاج إلى تفاصيل كثيرة رفعا لكل التباس أو سوء فهم، فسنكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى جملة من المبادئ الأساسية:
- أولا: أن الإسلام دين الحرية الحقة "والأساس في الإسلام هو حرية الإنسان ذاتا وفكرا، بحيث لا يكون عبدا لإنسان مثله أو أسيرا لنوازع نفسه حين تهبط به هذه النفس عن مرتبة الكرامة الإنسانية. أما الحرية إزاء الغير فقد فصلتها الشريعة في صورة حقوق وواجبات، وهذا الفارق الأساسي بين الإسلام وغيره من المناهج الوضعية هو الذي جعل الحرية في الإسلام مرتبطة بكرامته التي أودعها الله فيه وليست مجرد شعار لاكتساب حقوق جديدة أو التخلص من واجبات ومسؤوليات يضيق بها الإنسان... (ولذلك فإن حرية الإنسان في الإسلام تعد طريقا لرقيه والتسامي به وبطاقاته ومواهبه، ولكنها لا تعطيه حقا في ممارسة أي عمل يحط من قدر الإنسان أو يمتهن كرامته"(27).
- ثانيا: أن الإسلام ضد الإكراه، فالله تعالى قد أرسل الرسل للبلاغ وليس لإجبار الناس على اعتناق الدين كرها، وقد كان الإجبار والقهر على العقيدة كما يقول الإمام محمد عبده في تفسير المنار "معهودا عند بعض الملل لا سيما النصارى" فالقرآن ينفي الإكراه في الدين قوله تعالى (لا إكراه في الدين) وهو نفي للجنس نفيا شاملا يستغرق أنواعه وأفراده"(28).
- ثالثا: أن الإسلام دين العدل والقسط، يقول الله تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الآية 25 – الحديد. قال العلماء في تفسير هذه الآية "لكأن الهدف من بعث الرسل والبينات هو أن يقوم الناس بالقسط"، أي بالعدل.
في ضوء هذه المبادئ، لا نجد في الإسلام ما يمنع من التعاطي الإيجابي مع الديمقراطية. ولذلك عبر قادة ومفكرون ورموز إسلامية معاصرة عن هذا التوجه، فيوسف القرضاوي يعتبر أن "جوهر الديمقراطية يتفق مع الإسلام"(29)، أما حسن الترابي فيقول "إن المنتقدين للحركة الإسلامية يريدون دمغها بأنها ضد الديمقراطية، بينما هي في الحقيقة ظاهرة شعبية وجماهيرية وديمقراطية جدا"(30)، أما راشد الغنوشي فيرى أن النظام الديمقراطي "على ما هو في الغرب يبقى في غياب النظام الإسلامي أفضل الأنظمة التي تمخض عنها تطور الفكر البشري، كما أنه بقي إطارا صالحا لضمان حرية الشعوب في تقرير مصيرها واختيار نوع النظام الذي تريد أن تعيش في ظله. فما ينبغي إذن الاتكاء على عيوب هذا النظام لرفضه... فإن حرية منقوصة خير من الاستبداد"(31)، أما منير شفيق فيرى "أنه لا يوجد طريق لتحقيق الحل الإسلامي في عالمنا المعاصر إلا عن طريق الديمقراطية... وينبغي عدم النظر إليها "كوسيلة وقتية لتخدم أغراض صراع آني، وإنما كميثاق جماعي يقع الاتفاق عليه، بل تقع مصالحة وطنية وفقا لذلك"(32). وبناء عليه، نعتبر أن الإسلام بمبادئه وقواعده التي رسمها، أنسب إطار وأفضل فضاء لتبيئة الديمقراطية في واقع أمتنا وفي بلادنا. لهذا، نجد أنفسنا مع الرأي القائل بأن "تأخر الحسم في موضوع المشروعية العليا للدولة التي تنتظم تحت سقفها الخلافات الفكرية والسياسية في الوطن العربي"(33) هو أحد عوائق التحول نحو الديمقراطية، لأنه "بمنطق ديمقراطي صرف يتعامل مع الواقع كما هو ولا يتعسف عليه في تغييره لا بد من الإقرار بأن المرجعية الإسلامية هي المرجعية التي يمكن أن تحوز اليوم على إجماع واسع بلا نظير، وهو ما يقتضي التسليم بهذه المرجعية والعمل من داخلها والاختلاف على قاعدتها... ولعل ما يحدث في إطار المؤتمر القومي الإسلامي، وإن كان لا يزال في بداياته من مراجعة التيار القومي لبعض مواقفه السابقة وخاصة المتعلقة بالعلمانية كواحدة من مقومات القومية. وهي مراجعة تجري في اتجاه التنازل عن العلمانية والاعتراف بالمرجعية الإسلامية والتسليم بها ولها في مقابل اعتراف الإسلاميين بالعروبة والديمقراطية هو تجربة أولية ونموذجية في ذات الوقت يجب أن يقع توسيعها وتعميقها بما يخدم القضية الديمقراطية"(34).
5 – 3: لنسائل الآن التجربة المغربية في ضوء التحديات النظرية والمفاهيمية السابقة:
في المغرب نص دستوري، وتعددية حزبية ومؤسسات رسمية تعنى بحقوق الإنسان، في المغرب أيضا تنظيم انتخابات تفرز أغلبية نيابية... إلخ. فهل الديمقراطية مظاهر، أم لها حقيقة وروح وجوهر؟...
ليست الديمقراطية أن نمتلك نصا دستوريا بصرف النظر عن شكل بلورته وعن مضامينه. والدليل أن الدسترة في المغرب لم تلغ الطابع المخزني للسلطة السياسية ابتداء من احتكار السلطة التأسيسية للاجتماع السياسي وانتهاء بهيمنة المخزن على باقي السلط. لقد شرعنت مختلف الدساتير التي عرفها المغرب لهيمنة الدولة على الأمة.
وليست الديمقراطية أن تكون هناك تعددية حزبية، فليست الديمقراطية هي ارتفاع عدد الأحزاب، ولكن تقاس التعددية، في المنظور الديمقراطي، بمدى الاعتراف بالحقوق والحريات الأساسية، ومنها تكافؤ الفرص في العمل السياسي وإمكان التداول السلمي الفعلي للسلطة، بمعنى إمكان وجود تعدد برنامجي واجتهادي في النتيجة والمحصلة. وهنا أيضا ن لقد أبانت التجربة المغربية على أن التعددية – فضلا على كونها "مفبركة" ومصنوعة، في جزء هام منها، في معامل الداخلية ولا تعبر عن تعددية برنامجية واجتهادية موضوعية – فقد كانت وسلية المخزن المفضلة في تمييع العملية السياسية وخدمة التوازن السياسي والدستوري والمؤسساتي اللازم لاستمرار دوران العملية السياسية ضمن فلك مضبوط.
والتعددية في التجربة المغربية قسمت المواطنة قسمين: قسم مقبول له مواطنة من درجة أولى، وقسم غير مقبول له مواطنة من درجة ثانية أو بدون تصنيف، الأول يمكنه تأسيس الأحزاب، والثاني له خياران: إما للجوء السياسي إلى أحد الأحزاب الموجودة أو الحصار والتضييق وعدم الاعتراف !!...
وليست الديمقراطية أن يتم تنظيم انتخابات بصرف النظر عن نزاهتها، لأن الديمقراطية تعني فيما تعنيه حكم الأغلبية التي تحظى بمساندة شعبية واسعة مع حفظ حقوق الأقلية والمعارضة على السواء وبالنتيجة، فإن معناها احترام إرادة الأمة. وعليه، فالنزاهة شرط وجوب وشرط صحة – حسب تعبير الفقهاء – في العملية الديمقراطية، لأنه إذا ضاعت النزاهة ضاعت الشرعية. وإن من يفرط في شرط النزاهة يفرط في مبرر دعواه الديمقراطية.
أما بمقاييس الشروط السبعة التي تعتبر الحد الأدنى من الإجراءات التي يجب توفرها من أجل الديمقراطية السياسية الحديثة كما عرضها روبرت دال، فالتجربة المغربية لا تزال بعيدة جدا. فالبالغون من المغاربة ليس لهم جميعا الحق في التصويت والترشيح، والحق في التعبير دونما تهديد غير مكفول كليا ونهائيا. كما أن الحق في تشكيل المنظمات المستقلة أو الأحزاب غير مضمون... إلخ.
وبناء عليه، وحيث أن المسافة الفاصلة بين الواقع المخزني والمطلوب الديمقراطي لا تزال شاسعة، يصبح الحديث عن سؤال الانتقال الديمقراطي في التجربة المغربية مشروعا... فإلى أي مدى تستجيب التجربة المغربية لشروط ومتطلبات ومعايير الانتقال الديمقراطي؟... ذلك ما سنعرض له في المحور الثاني من مساهمتنا هاته.
II – الانتقال أو التحول الديمقراطي، في الشروط والمتطلبات والمعايير
أوردت الدكتورة ثناء فؤاد عبد الله في دراستها القيمة حول آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي تمييزا ذا أهمية، نكتفي منها بآليتين لانسجامهما مع الحالة المغربية وهي آلية التحول وآلية التكيف. ففي التحول "يقر الحكم بمعقولية أهداف حركة المقاومة (المعارضة)، أما في التكيف فيقدم الحاكم تنازلات محدودة لا تمتد إلى إحداث تغيير جذري بل يقدمها لتفادي خسائر أفدح"(35).
على ضوء ع هذا التمييز، ما معنى التحول الديمقراطي؟ ما شروطه وما متطلباته؟ وهل نحن في الحالة المغربية، أمام ديمقراطي أو أمام تكيف سياسي؟
6 – هناك سبعة معايير في التحول الديمقراطي، وهي:
أولا: معيار المشاركة الفعلية للمواطنين، فالعملية السياسية التي لا تقود إلى توسيع دائرة المشاركة الشعبية لا يمكن أن تعبر عن انتقال حقيقي وفعلي، ليصبح السؤال إذن: كيف نحقق المشاركة الفعلية للمواطنين؟ وكيف نطور المجتمع المدني الفاعل؟. إن ذلك يتأتى من خلال:
- إقرار حقوق المواطنة ومبتدؤه تجاوز الإرث المخزني التاريخي وطرح مفهوم جديد للسلطة يتأسس على الرعاية وتجاوز منطق المعالجات الأمنية ورفع اليد عن المواطيني لينظموا أنفسهم في إطار طوعي ومستقل عن كل أشكال التوظيف السياسي الإفسادي والانتخابي.
- تصحيح وضع التنمية البشرية كمحو الأمية مثلا.
- دفع الثمن الاقتصادي والاجتماعي للمواطن بما يجعله مقتنعا بالمشاركة في إدارة وتدبير الشأن العام.
ثانيا: معيار الحريات العامة ومنه:
- دفن الماضي والقطع مع السياسات القمعية الهمجية والمصالحة على أساس المصارحة ولا مصارحة بدون محاسبة، وفريق بين المحاسبة والانتقام، المحاسبة ضرورة سياسية لا غنى عنها لطمأنة الجميع أنه لا همجية ولا قمع بعد المحاسبة.
- إقرار حق الجميع مبدئيا في التعبير والتنظيم.
- إقرار مبدأ تكافؤ الفرص في العمل السياسي... ورفع الحظر عن الحركة الإسلامية وغيرها للتواجد السياسي المستقل.
ثالثا: معيار التعاقد الدستوري، ومنه:
- إقرار مبدأ التعاقد بدل الممنوح.
- أن يصبح المجتمع هو المبرر لوجود الدولة، أي إقرار مبدأ السلطة للأمة.
- لا سلطة بدون مسؤولية ولا مسؤولية بدون مراقبة محاسبة.
- لا قداسة مع ممارسة السلطة والمسؤولية.
- إقرار فعلي لدولة المؤسسات وعربونها فصل حقيقي للسلطات.
رابعا: معيار الإرادة الشعبية ومعناه: السلطة لمن تختاره الأمة والنزاهة واحترام اختيارات الأمة الأساسية.
خامسا: معيار التداول السلمي الفعلي للسلطة، والتداول يقتضي ثلاثة أمور: وجود تعددية حقيقية تعكس تعددية برنامجية واجتهادية، واحترام صناديق الاقتراع ثم امتلاك فعلي للسلطة، فالتداول ممارسة للسلطة لا خدمة لها
سادسا: معيار الاجتماع المدني، ومعناه ترسيخ سلطة القانون أي الانتقال من قانون القوة إلى قوة القانون.
واستعارة من التمييز الخلدوني الذي يميز بين الحكم الطبيعي بما هو "حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة" والحكم السياسي بما هو "حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار" ونظام الخلافة بما هو "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية"(36)، يمكن القول أن هناك ثلاث مستويات من الاجتماع السياسي: هناك الاجتماع السياسي الطبيعي وآليته هي القهر والغلبة، وهناك الاجتماع السياسي المدني وآليته العقل والقانون، والنظام الديمقراطي ينتمي لهذا الجنس من الاجتماع السياسي... وهناك أخيرا الاجتماع السياسي الراشد، ومن أبرز ما يميزه تقييد سلطة الأغلبية.
سابعا: المعيار الاجتماعي ومنه ترسيخ قيم التكافل والتضامن وبلورة سياسة اجتماعية تعالج الفقر والبؤس في أسبابها ودواعيها لا في تمظهراتها.
7 – باعتماد هذه المعايير، يمكن القول أن تجربة التناوب الحالية لا تؤشر لتحول ديمقراطي:
إننا في حقيقة الأمر، إزاء تكيف سياسي أملته اعتبارات السياق السياسي المغربي العام، أبرزها: الترتيب الهادئ لانتقال ولاية العهد، وتحديات الاستفتاء حول الصحراء المغربية، ومقتضيات الشراكة الأرومتوسطية، وتدهور الحالة الاجتماعية الداخلية وهو العنصر الذي كان يقضي بتوقيع اتفاق 1 غشت 96 لتجميد التوترات الاجتماعية ثم كان إنهاء المنازعة الدستورية من خلال "نعم" السياسية لدستور 96 إلى آخر الإجراءات التي عرفتها بلادنا في تلك المرحلة الممهدة لميلاد تجربة التناوب كتتويج سياسي لسلم اجتماعي مطلوب.
8 – وهكذا، ستولد تلك التجربة من رحم عملية سياسية مقطوعة الصلة بأهم أركان الانتقال أو التحول الديمقراطي:
أولا: لقد أنبتت العملية السياسية على إطار دستور ممنوح ظل وفيا لطبيعته المخزنية ولم يغير في توازن العلاقة بين الدولة والأمة.
ثانيا: إن العملية السياسية، في مجملها، لم تستطع استدعاء المشاركة الشعبية الواسعة حيث كان حجم العزوف الجماهيري مهما، وهو ما معناه أن الشعب لم يكن معنيا، في جزئه الغالب، بمحتويات تلك العملية.
ثالثا: إن العملية السياسية عرفت تزويرا انتخابيا واسعا، بمعنى أنها كانت عملية سياسية بدون مصداقية.
وهذا دون أن نتكلم عن المناورات المخزنية فيما يتعلق بإضعاف الأحزاب والمنظمات، بل والحرصعلى شقها.
فضمن هذه الشروط الأساسية ولدت تجربة التناوب الحالية، فهل يمكن أن نتحدث عن بدء عهد التغيير السياسي الحق؟ وهل بإمكان حكومة، تشتغل ضمن إطار دستور لاجم لكل الطموحات والتطلعات ومن مصدر انتخابي مطعون فيه وبمشاركة شعبية جد محدودة، أن تفتح البلاد على آفاق واعدة؟
من الناحية "الإكلينيكية الديمقراطية"، التجربة ولدت فاقدة لشروط الحياة الديمقراطية... لأنها تحصيل حاصل دستوري وانتخابي مقطوع الصلة بمقتضيات الانتقال الديمقراطي... ففاقد الشيء لا يعطيه كما يقال.
قد تستطيع التجربة تقديم بعض الإشارات، التي قد تكون أحيانا هامة، ولكنها غير كافية لفتح البلاد على الأمل. نحن لا نزرع اليأس، ولا نبذر الفشل... ولكن الحقيقة دائما ثورية... وفي نظرنا، أن نحمي شعار التغيير الحق من التبديد والعبثية مع البحث في شروط تطوير الأوضاع باتجاه الأفضل خير لنا ولشعبنا ولبلدنا من تحول موهوم مغشوش يفرط في الثوابت والمبادئ باسم دعاوي "الواقعية" و "فن الممكن" و "الشراكة" و "التوافق" و "التراضي"... ولذلك قلنا أن المغرب بحاجة إلى بداية واحدة صحيحة بدل بدايات كثيرة مغشوشة لأنه ليس هناك أخطر على الحقوق والحريات والديمقراطية والنهضة من التحولات المغشوشة أو "التكيفات السياسية" على حد تعبير الدكتورة ثناء فؤاد عبد الله.
للأسف أن هناك من يعتبر أن التمسك بالموقف المبدئي فيما حصل من تحول مغشوش ما هو إلا موقف أخلاقي تجريدي لا يبلور موقفا سياسيا عمليا لتحريك الواقع (!)... فهل هناك سياسة بدون أخلاق؟. وهل لموقف المشاركة في تجربة سياسية فاقدة للشروط من معنى سوى تبديد شعار التغيير السياسي الحق وتمييعه وإضعاف موضوعي لجبهة المطالبة بالإصلاحات الأساسية.
9 – مما سبق، يمكن تكثيف الخلاصات التالية:
أولا: باعتماد معايير ومقاييس التحول الديمقراطي، فلا يزال أمام المغرب قطع أشواط هامة.
ثانيا: إن التحول الديمقراطي ليس منحة ولا هبة ولا مكرمة، بل شروط من أجل تحصيلها وتحقيقها.
ثالثا: إن التناوب الممنوح لا يعني نهاية التاريخ السياسية المغربي. إنه أسدل الستار على مرحلة سياسية بكاملها وفتح الباب لمرحلة سياسية تاريخية جديدة، وهناك تفاعلات وعمليات فرز آخذة في التشكيل والتبلور.
رابعا: إن التناوب بالطريقة التي تم بها (ممنوح) وبالشروط التي قادت إليه (عزوف جماهيري، دستور للغلبة، انتخابات مطعون فيها...) لا يمثل بنظرنا المدخل الصحيح والمناسب لعهد التغيير السياسي الحق، ولا صلة له بمقتضيات ومستحقات الانتقال الديمقراطي كما هو متعارف عليه.
خامسا: إذا كان لكل شيء بداية، فمبتدأ التحول الديمقراطي هو الإصلاح الدستوري والسياسي الراشد، وعليه فإنه التمسك بخط الإصلاح السياسي والدستوري وإقرار الحريات العامة هو الخط السياسي الصحيح والمناسب.
في ضوء هذه الخلاصات، ما هي آفاق التحول الديمقراطي في المغرب؟ ما هي التحديات وما هي الممكنات؟ ما هي الرهانات وما هي المهام؟
III- آفاق التحول الديمقراطي بالمغرب: مهام ورهانات
10 – إن استحضار واستدعاء التحديات التي يواجهها المغرب ضرورة لمعرفة الحاجة الماسة لتطوير أوضاعنا السياسية والدستورية، ولإدراك فعلي وحقيقي لاستعجالية بعض الإجراءات في ملف الانتقال والتحول الديمقراطي. فالمهلة التي أمام المغرب للتأهيل السياسي والاقتصادي والاجتماعي جد محدودة.
وعليه يمكن إبراز أهم التحديات فيما يلي:
أولا: تعاظم المؤامرات على وحدتنا الترابية. فالاستكبار العالمي ممعن في دفع المغرب لحل متفاوض بخصوصه مع دعاة التجزئة والانفصال.
إذا أضفنا إلى هذا نوع الطريقة التي أدارت حركة الاحتجاج الاجتماعي في أقاليمنا الصحراوية مؤخرا، فإن الأمر يدعو للقلق.
ثانيا: المغرب غير مستعد لمواجهة تداعيات العولمة القادمة والآخذة في الاتساع وخاصة مع مطلع الألفية الثالثة. وهو للأسف أيضا غير مؤهل حتى لمواجهة مقتضيات اتفاق الشراكة الأرومتوسطية، فاقتصادنا لا يزال مرهونا باختلالات بنيوية عميقة.
ثالثا: الحالة الاجتماعية بالمغرب تدعو للقلق، والمؤشرات تنطق بأرقام مهولة: ربع ساكنة المغرب تعيش الفقر المدقع و23% من السكان النشيطين بدون شغل.. وهذا غيض من فيض.
رابعا: يحتل المغرب الرتبة 125 في التنمية البشرية في سنة 1998، وهناك ما يفوق 50% من الأمية !... إلخ.
11 – ضمن هذه التحديات ومقتضياتها، يطرح السؤال حول آفاق التحول الديمقراطي ببلادنا. وفي نظرنا، هناك خمس جبهات لا بد من تحقيق التقدم الضروري بخصوصها، وبدون ذلك، سيظل سؤال التحول الديمقراطي يلاحقنا ولن نفلح في مواجهة التحديات المتعاظمة الداخلية والخارجية التي تواجهها بلادنا...
الجبهات الخمسة هي:
أولا: جبهة الإصلاح الدستوري، عنوانها وشعارها من أجل دولة الأمة لا أمة الدولة. وفي نظرنا ما لم تجر إصلاحات حقيقية تنزع الطابع المخزني لنظامنا السياسي وتوزع السلطة توزيعا عادلا، فلا تغيير سياسي حقيقي ولا تحول ديمقراطي حقيقي.
ثانيا: جبهة الحريات والحقوق، حيث هناك ملفات لم تعرف طريقها للتسوية منها ملف الأستاذ عبد السلام ياسين، كما هناك ملفات الاختطاف والاعتقال والنفي.
وفي الملفات العالقة هناك ملف الحق في التعبير والتنظيم للجميع دون تمييز، وخاصة حق الحركة الإسلامية في التواجد السياسي المستقل، والحق في فرص متكافئة في العمل السياسي.
ثالثا: جبهة الإصلاح السياسي، ومنه إقرار مبدأ الإرادة الشعبية أي السلطة لمن تختاره الأمة وضمان نزاهة الانتخابات بإقرار إصلاح راشد لمدونة الانتخابات. هذا دون الحديث عن مطلب الثورة الثقافية لتطوير نظام الولاءات من نظام يقوم على القبيلة أو العشيرة أو النفوذ أو التعليمات إلى نظام الولاء للبرنامج والمشروع المجتمعي.
رابعا: جبهة الإصلاح الإداري والإعلامي. فالإدارة هي أداة تنفيذ السياسة، وبدون إصلاح إداري فلا إصلاح ديمقراطي، كما أنه بدون إصلاح إعلامي فلا إصلاح ديمقراطي.
خامسا: جبهة العدل الاجتماعــــي.
12– ولكن، هل التقدم على مسار هذه الجبهات هو موضوع رهانات فقط؟
أم هو موضوع مهام أيضا وربما أساس؟...
في نظرنا، فإن الآفاق مرتبطة بأداء الفاعلين الخمسة وهم: السلطة الحاكمة كقوة مهيمنة وما يرتبط بها، القوى المساندة لدستور 96 والتي تقود تجربة التناوب الحالية، القوى المعارضة لدستور 96، قوى المجتمع المدني بالإضافة إلى القوى الخارجية.
13– فيما يتعلق بالسلطة الحاكمة كقوة مهيمنة، فصحيح أنه تم تسجيل بعض الإشارات من مثل الحديث عن مفهوم جديد للسلطة والتركيز على الجانب الاجتماعي. وإن كانت بنظرنا إشارات محدودة مقارنة مع ما يلي:
- عدم الاعتراف بحق الحركات الإسلامية في الوجود السياسي المستقل.
- الملف الحقوقي لم تتم تصفيته كلية...
- الحوار حول الإصلاح الدستوري والسياسي لم يتم تدشينه بل ليست هناك مؤشرات تدل على قرب فتحه.
- المعالجة الاجتماعي ليست معالجة جذرية.
- ملف محاربة الفساد لا زال مجمدا... إلخ.
14 – أما القوى التي ساندت دستور 96، وفي مقدمتها مكونات حكومة التناوب الحالية، فابتداء يمكن تسجيل أن التجربة أبانت على أن مقاربة قضية الانتقال الديمقراطي من خلال المدخل الاقتصادي والاجتماعي هي مقاربة محدودة إن تكن هشة لأنها تفتقد لمقومات وشروط النجاح والتي يقف على رأسها مقوم الإصلاح السياسي والدستوري الحق. وعليه، فالرهان هو أن تقدم الحكومة الحالية على توسيع الحريات العامة وتوفير المناخ السياسي المناسب لدفع مسيرة الإصلاح لتحقيق تداول سلمي وفعلي للسلطة، فإن هي حققت ذلك، تكون قد أنجزت ربما وظيفتها التاريخية.
15 – أما القوى التي عارضت دستور 96، فهي التي تملك مصداقية أكثر لتصدر معركة التغيير السياسي الحق في المرحلة السياسية التاريخية التي انفتحت عليها بلادنا راهنا. إنها مدعوة لتلعب دورها وتقوم بوظائفها ومهامها السياسية المرتبطة بمعركة الإصلاح الشامل.
إنها مدعوة اليوم لبلورة كلمة سواء فيما يتعلق ببرنامج الإصلاحات الأساسية. فأمامها فرصة تاريخية نادرة لتشكيل كتلة تاريخية أو قطب أساسي لكتلة تاريخية تضم قوى سياسية، منظمات وحركات وفعاليات فكرية على درب إنجاز مهام ومقتضيات التحول الديمقراطي ببلادنا.
وتيسيرا لهذا الأمر، نرى أن ثمة محددات أساسية يمكن أن تعتمد كموجهات عامة:
أولها: احترام الهوية الحضارية للامة.
ثانيها: اعتبار الإصلاح الدستوري والسياسية أولية راهنة.
ثالثها: الالتزام بمطلب تصفية عادلة لكل الملفات الحقوقية عملا بمبدأ المصالحة على أساس المصارحة والمحاسبة.
رابعها: المساهمة في محاربة الفساد والمطالبة بالإصلاح الإداري والإعلامي.
خامسها: دعم كل نضال اجتماعي يخدم أهداف تحقيق العدل والقسط بين الناس.
سادسها: المساهمة في تطوير مناعة المجتمع وتطوير دفاعاته، أي بالنتيجة تفعيل المجتمع المدني.
سابعها: رفض التطبيع ومقاومته.
وتبقى هذه عناصر أولية بحاجة إلى نقاش معمق وأصيل، والهدف طبعا هو خندقة الجهود لتفعيل معركة الإصلاحات الأساسية.
16 – أما المجتمع المدني، فسيكون له ولا شك دور أساسي في ممارسة الضغط الضروري لتتحسن الأوضاع لمصلحة الشعب.
وهناك في نظرنا بعض العلامات والمؤشرات على ذلك.
أولا – مع طبيعة التحولات الاقتصادية الجارية وبدء استقالة الدولة مع اختيار الخوصصة ولدت جمعيات خيرية واجتماعية متنوعة (المعاقون نموذجا...).
ثانيا – هناك بروز ملحوظ لجمعيات متخصصة (البيئة، الرشوة، الزكاة...).
17 – وفي النهاية، لا ينبغي أن نهمل العامل الخارجي، سواء تعلق الأمر بالجار الجزائري ونوع الحسابات التكتيكية التي يرتب لها أو تعلق الأمر بقوى الاستكبار العالمي صاحبة المصلحة والنفوذ في المنطقة، وفي مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. فهناك سؤال مشروع يطرح نفسه بهذا الخصوص وهو: "هل من مصلحة الدول المهيمنة... إجراء إصلاحات ديمقراطية في الدول التابعة؟... وجوابا عليه، يرى شومسكي في كتابه "إعاقة الديمقراطية" أن "دور العالم الثالث في بنية المناطق العظمى يرتكز على تلبية حاجات المجتمعات الصناعية، وبذلك فإن الاهتمام الأكبر يرتكز على حماية الموارد لصالح الغرب. وبما أن الخطر الرئيسي الذي يتهدد هذه الموارد هو خطر محلي (أي في الدول التابعة)... فإن الحل كما يذكره شومسكي هو القمع البوليسي من قبل الحكومات المحلية"(37).
وبعد،
تلك كانت مساهمة في نقاش راهني هو بدون شك بحاجة إلى مزيد من أعمال النظر بغية التوصل إلى حد أدنى من التفاهم حول ما تفرضه المرحلة من مهام وأولويات.
A découvrir aussi
- التنمية البشرية بالمغرب
- السياسة بعد وصول الإسلاميين إلى الحكومة
- التحولات الإجتماعية و النخبة السياسية با
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 2 autres membres