تيمات مغربية معاصرة
الرفع من الأجور سينعكس سلبا على التوازنات
قال محمد ياوحي، أستاذ الاقتصاد بجامعة ابن زهر بأكادير، أن قضية الرقع من الأجور التي تعتزم الحكومة الحالية الرفع من قيمتها، سينعكس لا محالة وطبقا لدراسات نظرية مدعومة بتحليل لتجارب مختلفة على التوازنات الاقتصادية، معتبرا أن الزيادة في أجور العاملين في القطاع الخاص ستعيق الاستثمارات الأجنبية، حيث أن معدل الأجور يعتبر عاملا محددا في جذب الاستثمارات الأجنبية التي تبحث عن يد عاملة مؤهلة بتكلفة منخفضة.
وأبدى الدكتور ياوحي تفهمه لطبيعة الحاجيات المجتمعية للأسر المحتاجة، التي أفرزت نفقات إضافية (نفقات الهاتف والانترنيت، التعليم الخصوصي للأطفال، عيادة المصحات الخاصة المكلفة بعد تدهور الخدمات الصحية في المستشفيات العمومية، ارتفاع صاروخي في أثمنة السكن و العقار والمواد الغذائية الأساسية، أسعار الفائدة المبالغ فيها من طرف الأبناك،...). كل هذه العوامل أدت إلى ازدياد نفقات الأسر المغربية مع لجوء الأغلبية منها لقروض الاستهلاك التي ترهن مستقبل هذه الأسر ومستقبل أبنائها لسنوات طوال.
وكعضو في اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية المشارك في الحكومة الحالية، أعتبر أن الرفع من الأجور لن يزيد إلا الطين بلة، والورش الحقيقي الذي يجب أن يفتح، برأيه، هو تحسين القدرة الشرائية الحقيقية للمواطن المغربي عبر العمل على تخفيض أسعار السلع و الخدمات الأساسية، وتوفير مختلف الحاجيات ذات الأولوية بأثمان معقولة من مسكن وملبس وغذاء وخدمات صحية وتعليمية....الخ.
بعض الأوساط الإعلامية تتحدث عن اعتزام رئيس الحكومة الرفع من الأجور في القطاعين العام والخاص، و رفع الحد الأدنى للأجور إلى 3000 درهم، ما تعليقكم؟
أولا، سأحاول تقديم إجابات كباحث أكاديمي إجابات اقتصادية مبنية على تحليل علمي وموضوعي، بعيدا عن أي اعتبارات أخرى.
فعلا، هناك غليان اجتماعي، و ضغوطات من مختلف الفاعلين، وخصوصا النقابات، من أجل الرفع من الحد الأدنى للأجر، و هذه المطالب نتفهمها في ظل التدهور المستمر للقدرة الشرائية، والوضعية المعيشية لأغلب مكونات الطبقات الاجتماعية المتوسطة و الفقيرة، حتى أننا أصبحنا نشهد ” برتلة “ الطبقات المتوسطة نتيجة لارتفاع مستمر للأسعار، وخاصة المواد الاستهلاكية الأساسية، و لكن أيضا نتيجة لتطور الحاجيات المجتمعية لهذه الطبقات التي أفرزت نفقات إضافية (نفقات الهاتف والانترنيت، التعليم الخصوصي للأطفال، عيادة المصحات الخاصة المكلفة بعد تدهور الخدمات الصحية في المستشفيات العمومية، ارتفاع صاروخي في أثمنة السكن و العقار والمواد الغذائية الأساسية، أسعار الفائدة المبالغ فيها من طرف الأبناك،...). كل هذه العوامل أدت إلى ازدياد نفقات الأسر المغربية مع لجوء الأغلبية منها لقروض الاستهلاك التي ترهن مستقبل هذه الأسر و مستقبل أبنائها لسنوات طوال. أمام هذه الوضعية، أصبح المطلب العام لهذه الطبقات الشعبية، هو الزيادة في أجورها من أجل تحسين وضعيتها المعيشية. إلا أن نظرة عميقة و مستفيضة لهذه الإشكالية، تميط اللثام عن المشكل الحقيقي و الأساسي، الذي يكمن في استحواذ أقلية قليلة من أفراد المجتمع على القطاعات الإنتاجية الأساسية، و استفادتها من قربها من مراكز القرار من أجل مراكمة الأرباح والاستفادة من امتيازات الريع الاقتصادي التي تتم على حساب أوسع فئات الشعب المغربي. فبعد مسلسل ممنهج من عمليات خوصصة وتفويت قطاعات حساسة وأساسية للوبيات اقتصادية مغربية و أجنبية واحتكار القطاعات الإنتاجية الإستراتيجية ، أصبحنا نشهد ارتفاعا صاروخيا في أثمنة مختلف المواد والخدمات الأساسية ، مما شكل إرهاقا لميزانية الموطن المغربي وبالتالي لجوئه إلى مختلف أشكال الاحتجاج من أجل تحسين قدرته الشرائية وتمكينه من تلبية حاجياته الأساسية.
ما هي الانعكاسات الاقتصادية المتوقعة لمثل هذا القرار برفع الأجور؟
يجب التأكيد على أن رفع الأجور، سينعكس لا محالة وطبقا لدراسات نظرية مدعومة بتحليل لتجارب مختلفة على التوازنات الاقتصادية ، ويمكن أن نلخصها كما يلي :
1- إن أي محاولة للرفع من الأجور في القطاع العام ، سيؤدي إلى مطالبة العاملين في القطاع الخاص بزيادة مماثلة (حسب الاقتصادي الفرنسي J.BOURDU).
2- الزيادة في الأجور في القطاع العام ستؤدي إلى إنهاك ميزانية الدولة التي تعاني من عجز مزمن، والزيادة في الحد الأدنى للأجر ستدفع باقي الأجراء إلى طلب الزيادة في الأجور واحترام الفوارق بين مختلف سلالم الترقية و كذا الشهادات المحصل عليها.
3- الزيادة في الأجور سترفع من الطلب الداخلي، وهذا ما ستكون له انعكاسات تضخمية (ارتفاع الأسعار)، وفي ظل محدودية الطاقة الإنتاجية للنسيج الاقتصادي الوطني، سترتفع الواردات الاستهلاكية، مما سيعمق من عجز الميزان التجاري.
4- الزيادة في أجور العاملين في القطاع الخاص سيتسبب في زيادة تكاليف المقاولات ، مما سينعكس سلبا على تنافسيتها، هذا الانعكاس السلبي سيكون أكثر تأثيرا على المقاولات الصغرى والمتوسطة التي يعاني أغلبها من خصاص مهول في مصادر التمويل. وعلما بأن هذا النوع من المقاولات هو الذي يخلق نسبا جد مهمة من فرص الشغل، فإن ارتفاع التكلفة الأجرية لهذه المقاولات سيكون لا محالة عائقا أمام خلقها لفرص الشغل، وبالتالي امتصاص البطالة.
5- بالنسبة للمقاولات المصدرة ، فستجد نفسها أمام تكاليف إضافية , ستحد من تنافسيتها في السوق الدولية ، أمام مقاولات منافسة تستخدم عمالا مؤهلين بأجور منخفضة ، خصوصا المقاولات الأسيوية وأخرى من الدول النامية .
6- أما المقاولات التي تنشط في السوق الوطنية ، فإنها ستعمد إلى الرفع في الأسعار لأجل تغطية التكاليف الإضافية المتعلقة بالزيادة في الأجور ، هذه الزيادة في الأسعار ستضعف القدرة الشرائية لمجموع المواطنين ، بما فيهم العمال داخل المقاولات ، هؤلاء سيطالبون بزيادة جديدة في الأجور ، هذه الزيادة سترهق ميزانية المقاولة التي ستعمد إلى الرفع من جديد في الأسعار ، الشيء الذي سيولد حلقة مفرغة من الزيادات في الأجور من جهة , والأسعار من جهة أخرى . وهذا ما نسميه في الاقتصاد الدوامة التضخمية
(SPIRALE INFLATIONNISTE).
7- الزيادة في أجور العاملين في القطاع الخاص ستعيق الاستثمارات الأجنبية، حيث أن معدل الأجور يعتبر عاملا محددا في جذب الاستثمارات الأجنبية التي تبحث عن يد عاملة مؤهلة بتكلفة منخفضة.
وهكذا، يمكن إجمال التبعات السلبية للزيادة في الأجور في إرهاق ميزانية الدولة ، تعميق عجز الميزان التجاري، الحد من قدرة المقاولة على خلق فرص الشغل وتدهور تنافسية المقاولات الوطنية أمام نظيراتها الأجنبية ، تحفيز الموجات التضخمية والتأثير سلبا على جاذبية بلدنا للاستثمارات الأجنبية التي تساهم في خلق فرص الشغل وجلب العملة الصعبة بالإضافة إلى توطين التكنولوجيا.
إذن ما الحلول التي تقترحونها كباحث اقتصادي، وفي نفس الآن كعضو اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية؟
انطلاقا من التحليل المقتضب لوضعية اقتصادنا ولطبقاته الاجتماعية ، وللانعكاسات الجانبية لكل محاولة للرفع من الأجور، وانطلاقا كذلك من اصطفافنا إلى جانب الجماهير الشعبية، فإنني أعتقد شخصيا، أنه يجب الانخراط في إصلاحات هيكلية وجذرية لنمط الإنتاج السائد الذي يفرز اختلالات اقتصادية تنعكس سلبيا على السلم الاجتماعي وعلى مسلسل الإصلاحات السياسية في بلادنا التي نريدها أن تكون إصلاحات عميقة وحقيقية، وليس مسكنات مرحلية. فكما قلت سابقا ، الرفع من الأجور لن يزيد إلا الطين بلة، والورش الحقيقي الذي يجب أن يفتح ، هو تحسين القدرة الشرائية الحقيقية للمواطن المغربي، وهذا عبر العمل على تخفيض أسعار السلع و الخدمات الأساسية، وتوفير مختلف الحاجيات ذات الأولوية لشعبنا بأثمان معقولة من مسكن وملبس وغذاء وخدمات صحية وتعليمية، وهذا عن طريق تشجيع المنافسة والتقليل من نفوذ الاحتكارات والمجموعات الاقتصادية المهيمنة، وإعطاء متنفس للمقاولات الصغرى والمتوسطة وتشجيع الشباب حاملي الشهادات على خوض هذه التجربة ، شريطة تأمين الشروط القمينة بإنجاح هذه المشاريع وإعطائها الضمانات الكافية الاقتصادية والمؤسساتية.
و كذلك من الأساسي أن تكون الأوراش الكبرى التي دشنها المغرب في السنوات الأخيرة في خدمة المواطن المغربي قبل كل شيء، فالسياسات الصناعية و الفلاحية و السياحية و التعليمية و الإسكانية...الخ يجب أن تضع تلبية احتياجات المواطن المغربي وتحسين مستواه المعيشي في صلب اهتماماتها وأولوياتها. كما يجب إعادة النظر في السياسة الضريبية، وجعلها أكثر فعالية وعدالة عن طريق توسع الوعاء الضريبي ليشمل القطاعات والمقاولات التي تتملص من المساهمة في أداء هذا الواجب الوطني. وفي الأخير لا يجب أن ننسى أن أولوية الأولويات للحكومة الحالية هي ملف التشغيل، وأنا شخصيا أفضل أن ترصد الميزانية التي قد ترصد للزيادة في الأجور لخلق مناصب شغل جديدة، خصوصا في القطاعات التي تشهد خصاصا كبيرا من حيث الموارد البشرية، مثلا قطاع التعليم، الصحة، القضاء، مفتشو الشغل ومفتشو وأعوان مصالح وزارة المالية الخ... وأتمنى التوفيق لهذه الحكومة التي من الأكيد أنها تستحضر حساسية المرحلة وثقل الإكراهات والتحديات وكذا انتظارات شعبنا المغربي.
رهانات المجتمع المدني على ضوء مقتضيات الد
شهد مطلع السنة الميلادية 2011 حراكا اجتماعيا قويا في إطار ما سمي بالربيع العربي، وتفاعل الشعب المغربي مع هذا الحراك رافعا مطلب تغيير الدستور كمدخل لإسقاط الفساد وتحقيق التحول الديمقراطي والتنمية المنشودة.
وقد كان تجاوب العاهل المغربي سريعا مع هذا الحراك إذ أعلن في خطاب التاسع من مارس على فتح ورش الإصلاح الدستوري وفق مبادئ توسيع سلطات الحكومة والبرلمان وربط المسؤولية بالمحاسبة.
ولعب المجتمع المدني المغربي دورا أساسيا في الحراك المجتمعي كما تفاعل مع ورش الإصلاح الدستوري إذ قدمت عديد من الهيئات المدنية الحقوقية و النسائية و الثقافية والتنموية والتربوية مذكرات ومقترحات أمام لجنة تعديل الدستور مطالبة بالتنصيص الدستوري على المجتمع المدني و تعزيز صلاحياته بالإضافة لمقترحات تهم كل هيئة حسب تخصصها.
الدستور يكرس دور المجتمع المدني
وبالفعل نصت الوثيقة الدستورية التي صادق عليها الشعب المغربي في استفتاء الفاتح من يوليوز 2011 على الدور الأساسي الذي يلعبه المجتمع المدني في إطار الديمقراطية التشاركية و أكدت على حقه في تقديم العرائض و ملتمسات تشريعية و المساهمة في بلورة السياسات العمومية.
وهكذا وفي إطار الأحكام العامة للباب الأول من الدستور نص الفصل 12 على أن جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تُؤسس وتمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون.ولا يمكن حل هذه الجمعيات والمنظمات أو توقيفها من لدن السلطات العمومية، إلا بمقتضى مقرر قضائي. كما أن الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، تُساهم في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون.
كما أكد الفصل 13 على أن السلطات العمومية تعمل على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها. ووسع الفصلين 14 و 15 دائرة الفعل المدني لتشمل عموم المواطنات والمواطنين و تضمن لهم الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع وكذا الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية، ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي.
وفي الباب الثاني من الدستور المتعلق بالحريات والحقوق الأساسية أضاف الفصل 27 حق المواطنات والمواطنين في الحصول على المعلومات، الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام. ونص الفصل 33 على أن السلطات العمومية تتخذ التدابير الملائمة لتحقيق توسيع وتعميم مشاركة الشباب في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للبلاد؛ و مساعدة الشباب على الاندماج في الحياة النشيطة والجمعوية، ...و يُحدث مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي، من أجل تحقيق هذه الأهداف.
وضمن فصول الباب التاسع من الدستور المتعلق بالجهات والجماعات الترابية الأخرى نص الفصل 139 على أن مجالس الجهات، والجماعات الترابية الأخرى تضع آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها.و أكد نفس الفصل على أنه يُمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله.
وتطرق الفصل 170 من الباب الثاني عشر من الدستور المتعلق بالحكامة الجيدة و في إطار التعريف بهيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية لتحديد صلاحيات المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، المحدث بموجب الفصل 33 ، إذ نص الفصل 170 أن المجلس المذكور يعتبر هيئة استشارية في ميادين حماية الشباب والنهوض بتطوير الحياة الجمعوية. وهو مكلف بدراسة وتتبع المسائل التي تهم هذه الميادين، وتقديم اقتراحات حول كل موضوع اقتصادي واجتماعي وثقافي، يهم مباشرة النهوض بأوضاع الشباب والعمل الجمعوي، وتنمية طاقاتهم الإبداعية، وتحفيزهم على الانخراط في الحياة الوطنية، بروح المواطنة المسئولة.
وقد أبانت الحكومة المنبثقة عن انتخابات 25 نونبر 2011 حرصها على تعزيز المكانة الدستورية للمجتمع المدني من خلال إحداث قطاع وزاري جديد ضمن الوزارة المكلفة بالعلاقة مع البرلمان والمجتمع المدني .
المجتمع المدني رافعة ودعامة لباقي المؤسسات
وبالتالي فالتغيرات التي عرفها السياق الدستوري والسياق السياسي تحتم على المجتمع المدني إحداث تغيرات تجعله يتلاءم مع الفرص الجديدة التي أتاحها النص االدستوري يمكن تحديد بعض ملامحها فيما يلي :
ـ تعزيز إدراكه لدوره و إعادة النظر في رؤيته و رسالته و صولا إلى الأدوات التي سيعتمدها في السياق الجديد.
ـ مزيد من الاحترافية و المهنية في قيامه بمهامه لتشكيل قوة اقتراحيه تساهم في بلورة قوانين وتسطير برامج تساهم في التجاوب الإيجابي مع ضغوط المطالب الجماهيرية.
ـ البدء بتقديم مقترحات تخص صلاحيات القطاع الوزاري المكلف بالمجتمع المدني
ـ تقديم مقترحات تهم النظام الداخلي لمجلس النواب كي يأخذ بعين الاعتبار المكانة الدستورية الجديدة للمجتمع المدني و ينظم تدبير مشاركة المجتمع المدني في تقديم ملتمسات للتشريع .
ـ العمل على بلورة تصورات خاصة بجمعياته حول تفعيل مواد الدستور المتعلقة بتقديم العرائض و بالمساهمة في رسم السياسات العمومية ,
ـ الدعوة إلى الإسراع بإخراج المجلس الاستشاري للشباب و العمل الجمعوي للوجود، بصلاحيات محددة و مضبوطة تتكامل مع صلاحيات باقي المؤسسات و الهيئات الدستورية و القطاعات الوزارية ذات الصلة.
ـ تملك المعرفة الإلكترونية و توظيفها لتوفير الثقافة البناءة و الهادفة و القادرة على المساهمة في التغيير ، في إطار تطوير وسائل العمل، و وعيا بتأثير تكنولوجيا الاتصال و الفضاء الإلكتروني الذي ساهم في إحداث "مجتمع مدني افتراضي" وفر إمكانات تواصل و تشبيك و إيجاد قنوات جديدة للتعبير و التأثير و التعبئة أكثر رحابة و مرونة و استيعاب من فضاءات المجتمع المدني التقليدي .
و ختاما، و بالنظر للدور المتنامي للمجتمع المدني الذي يمكن أن يشكل رافعة و دعامة لباقي المؤسسات و يساهم في حل إشكالات و معضلات اجتماعية يقع حلها أساسا على عاتق الدولة، فالحكومة المغربية مطالبة اليوم بتفعيل مقتضيات الدستور المتعلقة بالمجتمع المدني و تسطير برامج للرفع من قدرات أطر المجتمع المدني و سن قوانين تنظم مجال العمل التطوعي و تخصيص ميزانيات مهمة لدعم هيئات المجتمع المدني الجادة مع اعتماد الشفافية الضرورية في صرف الدعم العمومي.
المجتمع المدني وامتحان المشاركة
الكثيرون ينتظرون إعلان برنامج أول حكومة في ظل الدستور الجديد، من المواطن العادي إلى المراقب الدولي مرورا بالفاعل السياسي والحقوقي والإعلامي والخبير من مختلف التخصصات. ولئن كانت لحظة الإعلان عن البرنامج الحكومي لحظة انطلاق آلية التقييم والنقد وعداد متابعة الحصيلة والانجازات، في الأسبوع الأول والشهر الأول والمائة يوم الأولى والسنة الأولى، فإن لحظة إجازة البرنامج الحكومي في البرلمان تطلق بالموازاة امتحانا من نوع آخر لم يكن معهودا في ظل الدساتير السابقة، إنه امتحان مشاركة المجتمع المدني في التدبير العمومي فيما أسماه الدستور نفسه "الديمقراطية التشاركية".
وأول خطوة في اتجاه النجاح في استحقاق هذه المشاركة هي في تجاوز النظرة الأحادية في مطالب تنزيل الدستور وتفعيل آلياته، بحيث نكون ولأول مرة في تاريخ المغرب أمام وضع ليست الحكومة والدولة هما وحدهما من يكون عليهما تنزيل بنود الدستور بل سنكون حينها أمام مطلب تفعيل المواطنين والمجتمع المدني فصولا في الدستور تعطيهم الحق في المشاركة في التشريع والحق وفي المراقبة، ليس عن طريق البرلمان كما هو معهود في الدساتير السابقة، ولكن بشكل مباشر وفعال. وليس المقصود هنا المشاركة التقليدية التي نشط المجتمع المدني على الدوام فيها، والتي تأخذ شكلها المؤسسي في تقديم المذكرات المطلبية أو مذكرات تعديل الدستور أو مقترحات مشاريع قوانين على البرلمان وغير ذلك، بل المقصود هو مشاركة مباشرة في عملتي التشريع والرقابة التي احتكرهما البرلمان سابقا وتمت دسترة توسيعهما ليشملا المجتمع المدني وكل المواطنين.
وبالرجوع إلى امتحان المشاركة الذي يهم الحكومة من جهة والمجتمع المدني من جهة ثانية، يمكن القول أن هذا الامتحان يتعلق بقياس إنجاز أربعة مواد.
تتعلق المادة الأولى من امتحان المشاركة بتفعيل الفصل 12 من الدستور والذي يؤكد أن "الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، تُساهم في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها". وحسب نفس الفصل "على هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون".
ففي هذا الفصل نجد استحقاقان، الأول يتعلق بتفعيل المجتمع المدني للديمقراطية التشاركية من خلال المشاركة في إعداد القرارات والمشاريع لدى المؤسسات المنتخبة، الجماعات المحلية والبرلمان بغرفتيه. الاستحقاق الثاني، الذي يتوجب تفعيل المطالبة بالاستعجال به، هو إصدار القانون الذي ينظم هذا المستوى من المشاركة، إذ بدونه لن تكتمل الديمقراطية التشاركية المطلوب منها دستوريا إدماج المجتمع المدني في مؤسساتها.
وتتعلق المادة الثانية بتفعيل الفصل 13الذي يدعوا السلطات العمومية إلى العمل على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها. وفي هذا الفصل يحضر المجتمع المدني ضن الفاعلين الاجتماعيين المطلوب مشاركتهم في السياسات العمومية في كل مستوياتها من الإعداد إلى التقييم مرورا بالتفعيل بل وبالتنفيذ! وهي مهمة لا يمكن القيام بها إلا بإحداث "هيئات التشاور" وهو ما يتطلب رصدا جمعويا للعمل الحكومي وحمله على الإسراع بإحداث تلك الهيئات للسماح للمجتمع المدني وباقي الفاعلين الاجتماعيين بالقيام بمهامهم الدستورية الجديدة.
وتتعلق المادة الثالثة من مواد الامتحان بالفصل 14 والذي يؤكد أن "للمواطنين والمواطنات، ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي، الحق في تقديم اقتراحات في مجال التشريع". ورغم أن هذا الفصل ينص على تنظيم مشاركة المواطنين في التشريع من خلال تقديم مقترحاتهم، إلا أن الجهة الكفيلة بتأطير المواطنين في هذا الباب، إلى جانب الأحزاب، هي الجمعيات. ويتوقف تفعيل هذا الفصل أيضا على استحقاق يتعلق بوضع قانون تنظيمي في هذا الشأن.
وتتعلق المادة الرابعة بتفعيل الفصل 15 الذي ينص على أن " للمواطنين والمواطنات الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق". وينظم هذا الفصل شكلا من أشكال تعبير المجتمع عن موقفه من الاختلالات التي تكون السلطات العمومية المسؤولة عنها. وهذا الفصل يجعل للمواطنين الحق في تقديم العرائض وينص على ضرورة وضع قانون تنظيمي ينظم ذلك الحق. والمجتمع المدني من أكثر الفاعلين أهلية لتأطير المواطنين وحثهم على تفعيل هذا الحق. مما سيجعل لجمعيات المجتمع المدني دورا مؤثرا في الضغط على السلطات وحملها على التدخل لإنصافهم.
ومن الملاحظ أننا أمام أربعة فصول دستورية تخول للمجتمع المدني من مختلف المستويات، أن يلعب دورا مؤثرا في الديمقراطية التشاركية. وتكون مواد الامتحان، الذي لا شك سينطلق في أول يوم بعد إجازة البرنامج الحكومي في البرلمان، هي أولا في إخراج ثلاث قوانين تنظيمية وهيئة للتشاور لتمتيع المجتمع المدني بحقه في الديمقراطية التشاركية. لكن المجتمع المدني مطالب منه النجاح في الضغط لإخراج تلك القوانين والهيئات في أقرب الآجال وفي تفعيل دوره التشاركي بعد ذلك.
إن قياس نجاح المجتمع المدني في الديمقراطية التشاركية بعد إخراج تلك القوانين والهيئة الاستشارية سيكون أكثر وضوحا ودقة وسوف نكون أمام تقارير ترصد عمل المجتمع المدني من خلال مؤشرات موضوعية مثل عدد مشاريع القوانين المقرحة من جهته وفي عدد القرارات والمشاريع التي أعدها أو شارك في إعدادها لدى المؤسسات المنتخبة.
الأمـيـر
لكل حادث حديث، والحادث –الآن- هو تصدر حزب العدالة والتنمية المشهد السياسي المغربي تصويتيا وعدديا، وَتَسّيُدُهُ الأحزابَ السياسيةَ الأخرى، وفي مقدمتها أحزاب: "الكتلة الديمقراطية".
هل كان هذا الحادث منتظرا؟ أم هو حادثة سير وقعت ولم يكن مخططا لها، ولا كانت في البال والحسبان؟
الواقع، أن جل المؤشرات كانت تضع "العدالة والتنمية" في المقدمة، وَتُبِنّكُهُ المرتبة الأولى، والسنام البارز، بالنظر لإرهاصات العام 2007 الذي بَوَّأَهُ الصف الأول من حيث عدد الأصوات المعبر عنها من لدن الكتلة الناخبة، وبالنظر-لنعترف بذلك، فالاعتراف فضيلة- لأداته التنظيمية الصلبة والمحكمة، ونشاط كوادره ومناضليه، ولحضوره الضارب في الساحة الوطنية من حيث تغلغله وسط العوام، ووسط مختلف الطبقات والفئات، و الشرائح المجتمعية، تغلغله لجهة انخراطه الاجتماعي العضوي، ولصوقه بالجمعيات، والمشافي، والمساجد، والخيريات، ودور القرآن، وهَلُّمَ جِرًا، مستندا، بالقوة والفعـل، إلى مرجعية دينية قـوامها الوضـوح والسطوع، والوعد والوعيد، يُشْرِعُها في –كل آن وحين- لا ننسى ضميره الكامن: حركة الإصلاح والتوحيد-، مستميلا الطبقات الشعبية إلى ملفوظه الديني –الأخلاقي، منافحا عن هذه المرجعية، التي هي مرجعية شعب، محتكرا لها، مسربلا إياها باللحى الكثه والمدببة، أو المنسابة والمشذبة، البيضاء أو السوداء الغدافية، المضرجة بالحناء، أو الموخوطة رمادا وبياضا، أو بالحجاب في حالة الإناث، ما دام –في عرفه- أن ظهور خصلات الشعر الذهبية أو الغميسة الليلية، تُجَمّشُ الليبيدو، وتوقظ الفتنة النائمة !.
لنقلها بصراحة، ومن دون مواربة ولالف ولا دوران : إن حزب العدالة والتنمية يركب الدين ذريعة إلى الوصول، ويمتشق سيف الأخلاق والعذرية والطهر، مطية إلى التأثير في الوجدان الشعبي العام، والألباب المشدودة إلى الماضي الفردوسي، وعبق أعصر الخلافة التي تقدمها الكتب الصفراء، والروايات الرعناء كأجمل ما كان، وأقدس ما كان ! وأعظم ما كان !
إنه خطاب ميسر، يسرته أزمنة سادت فيها الخرافة والجهل والتخلف، واستمرت عقابيل هذه الآفات إلى اليوم، يتغذى، منها وعليها، جمهور واسع من الناس حُرِمُوا- لظروف وأسباب يطول شرحها- من التعليم والتربية والتكوين. وهو الجمهور الذي تعشش فيه الأمية الظالمة، وتضرب وسطه بسهم وافر، وليس سرا أن الميتافيزيقا والوهم، تجد كامل تحققها وتمظهرها في هذه الأوساط المغلوبة، ما ييسر الإيمان بالغيب، والغد العَدَني، والمائدة التي ستسقط يوما من السماء.
هذه بديهة أولى، ما يعني أن الحزب الديني الفائز في اقتراع 25 نونبر 2011، لايجد مشقة ولا ضنكا، ولا تمحلا في تمرير خطابه الأصولي المؤسس على الأخلاق والفضائل والصلاة والصوم والحج والمجاهدة، والتوبة، ومحاربة الفساد والمفسدين، وقطع دابر الاستبداد، والبرهنة على ذلك بتشويه الخصوم السياسيين الذين يقدمهم للعموم، بوصفهم ملاحدة وزنادقة، ومارقين، يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ولا كلام –مطلقا- في خطابهم، وبرامجهم، ومشروعهم المجتمعي، عن الحريات الفردية، وقبول الآخر المختلف دينا ورأيا وفكرا وموقفا، ولا كلام عن الفن بمختلف أجناسه، بوصفه سموا روحيا، ورقيا عقليا، ورقة وجدانية، ونشرا للحب والجمال. ولا تركيز على المرأة بوصفها كيانا آدميا كاملا غير منقوص، مساويا للرجل في الفكر والعلم والعبقرية، والكفاءة والفعالية في التدبير والتسيير. ولا إشارة –أبدا- إلى الحداثة والتحديث لأن المفهوم بدعة وضلالة، وكل ضلالة في النار!
ثم إني عجبت لمن يقول بأن حزب العدالة والتنمية، اكتسح الطبقة الوسطى بعد أن حقق إبهارا لدى الطبقات التحتية.
والحال أن ما يسمى بالطبقة الوسطى، هي خلطة توجهات، واتجاهات، ومواقف ورؤى، ومشارب ومرجعيات فكرية. أما جامع الحداثة فلا يقاس بكل هذه الأطياف من هذه الطبقة ما لم نستثن النخبة المثقفة أو "الأنتلجنسيا". فالمحامون والأطباء، والمهندسون، والمستثمـرون، والأطر البنكية، وأرباب الشركات، والأساتذة الجامعيون، والمدرسيون، لا يمكن دمغهم بالحداثيين والديمقراطيين طُرًّا، طالما أن داخل كل فئة من هؤلاء الـذين ذكرنا، زمرا وفرقا وأسرابا تعادي التقدم والتطور والمستقبل لنوعية تربيتها وتكوينها، ومدى كان استعدادها في فترة الطلب والتحصيل، للانخراط في أسئلة المجتمع، وحرائقه من عدمه.
هكذا نخلص –في عجالة- إلى أن غلبة التدين، واستشراء الفساد في مختلف تمظهراته في الواقع العيني، وجائحة الأمية، وعار الفاقة والفقر، كانت جميعها الأرضية الخصبة، والمهاد اللاحب لتغلغل خطاب العدالة والتنمية الذي لوح بالجنة في برنامجه العام، وصدق الناس وجود هذه الجنة لجهة نضالية أطر ومناضلي الحزب، واستقامتهم وتعبئتهم، وإطلاق ترسانة من الوعود التي دغدغت أفق انتظار أولئك الذين لبوا نداء الواجب الديني والخلقي لا الوطني والمواطني، وأوقدوا المصباح لعله يطرد الليل الذي خيم، ويؤذن بالفجر المتاح، والصباح المباح !.
ثم عجبت، ثانية، لبعض السُّوسيولوجيين والأنتروبولوجيين المغاربة –يا حسراه- وهم يدبجون مقالات نجحت في لَيّ عنق الحقيقة، ومغازلة الحزب الفائز، حتى إن واحدا منهم ذهب به الشطح بعيدا حين لم يتردد في اعتبار أن : "مسار مراجعات العدالة والتنمية، تمكنه من إنتاج فكر سياسي حداثي متميز، وأن وصول الإسلاميين إلى الحكم، سيشكل دعامة أساسية في المسار الديمقراطي"، فمثل هذا الكلام يطرح، بحدة، مشكل الصدقية والموضوعية في التعامل مع المستجدات والطواريء، ومثل هذا الكلام ينسى أو يتناسى مواقف عاشها الحزب، وعبر عنها في محطات مختلفة، عكست –بالواضح لا بالمرموز- أبعاد فكرة، وركائز أطروحاته، وثوابت رهاناته.
لسنا نؤنب أو نلوم من صوت لصالح العدالة والتنمية، فلعبة الديمقراطية هي هذه، وطبيعة الواقع المغربي في الوقت الراهن، لن تعطي أكثر مما أعطت، لكننا –بالمقابل- نلوم أحزاب الكتلة الديمقراطية على التفريط، وعدم تلبيتها لانتظارات الشعب في الشغل والتعليم والصحة والسكن والعيش الكريم، أو –في الأقل- إقناع الشعب بقلة ذات اليد، وبإكراهات الظروف التي تعسفت على تلك الانتظارات. وَمَثَلُ الاتحاد الاشتراكي كحزب كبير وقوي، فَاقِعٌ لأنه أخطأ الموعد مرتين : مرة عند خروج النظام على المنهجية الديمقراطية، ومع ذلك استمرأ لعبة الغماية، ومرة عند التصويت الفضائحي في العام 2007 الذي كان عقابا واضحا ورسالة غير مشفرة للحزب الاشتراكي تحديدا على وجه التأكيد. ومن ثم، وعطفا على ما سبق، صِيرَ إلى عقابه جماهيريا بعدم التصويت المكثف عليه كما توقع، وعدم إحلاله المكانة المعتبرة.
من جهة أخرى، لا ينبغي أن يعزب عن أذهاننا، عزوف أكثر من نصف الكتلة الناخبة عن التصويت، فهذه الكتلة المعتبرة في ميزان المصداقية العامة، لم تختلف إلى مكاتب الاقتراع يوم 25 نونبر لأسباب ذاتية وموضوعية مفهومة تماما : شكها في تنزيل بنود الدستور المعدل، وتنفيذها بتصييرها أجوبة ونتائج ملموسة على أسئلة ووقائع مرتبطة بيومية ومعاش المواطنين؛ واكتواؤها بسلبية أداء الحكومة المنتهية ولايتها، والتي كانت أسوأ حكومة بالقياس إلى الحكومات السابقة على ضعفها جميعا، وفشلها في تحقيق ما ظلت تَعِدُ به.
وعلى رغم ذلك نقول إنه لو صوتت تلك الكتلة الناخبة الغائبة الثقيلة بمعيار ثقافتها وفكرها، وتوجهها الحداثي، لكانت النتيجة غير ما عرفنا، ولآلت الأمور والدَّفَّةُ إلى الكتلة الديمقراطية مجتمعة. ولنا أن نسأل ونتساءل: ألم يقاطع اليسار الجذري هذا الاستحقاق؟ ألم يقاطعه أنصار إسلاميون ينتسبون إلى حزب "العدل والإحسان"؟ ألم تقاطعه طبقة عريضة من شباب 20 فبراير؟ ألم يقعد بأعداد وفيرة، غير من ذكرنا، يأسها وشكها؟
ثم ألا نحتسب الأصوات الملغاة، وهي بالأكداس والدزينات، والتي عبرت بلاغيا بالتشطيب أو التمزيق أو الترصيع بالخربشات/ الكرافيتي؟
فهل تسمح لنا هذه الأسئلة، وأخرى غيرها، بالإطمئنان إلى إنجاز حققناه؟ وأي إنجاز؟ والكل طي الغيب والمستور.
وهل بِمُكْنَةِ الحزب الفائز، أن يُكَذّبَ ضلالنا وتجديفنا بالتوقف عن ازدواجية الخطاب أثناء تدبير الشأن العام، وَغِبَّ الممارسة من حيث وضع الطوبى التي لوح بها في مشروعه المجتمعي، وبرنامجه العام والتفصيلي، موضع التنفيذ والتصريف والفعل والمفعول.
فهل يبدل تدبير الملفات الكبرى، وإدارة الشأن العام بمعية حلفاء حزبيين ثلاثة، أداء الحزب الملتحي، ويعدل مساره، ومن ثم، فكره وتشوفاته؟ ولنا في أحزاب إسلامية عربية حاكمة ما يثير هذه الأسئلة الحائرة، ويملأ القلب حيرة وقلقا.
والآن، وقد اختار حزب الاتحاد الاشتراكي –ديمقراطيا- في استفتاء مجلسه الوطني الأخير- الاصطفاف إلى اليسار بالمعنى التاريخي الذي يفيد المعارضة البناءة والبانية، يكون قد أطلق صافرة اليقظة و الإفاقة، والعود إلى الجادة، إذ عليه-وما ذلك بعزيز- أن يعيد بِنَاء الأداة التنظيمية بناء محكما ومتحركا، وأن يبدل السحنات والوجوه، ويضخ الدم الأحمر القاني في شرايينه المتيبسة، ويتوجه حثيثا- إلى القطاعات التي شكلت عموده الفقري، ودماغه المتوثب، وقوته الضاربة في المشهد السياسي العام على مدار سنين وعقود، وأعني قطاعات التعليم والصحة والهندسة والمحاماة، والفلاحة والطلب الجامعي، وأن يُقَوّمَ أداءه السياسي والاجتماعي بين الفَيْنَاتِ، ويتابع منتخبيه برلمانيا وبلداتيا وجماعاتيا، ويزرع في المؤسسة الاشتراكية الموازية، ومؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، الروح و الحياة عبر استقدام ودعوة مثقفيه ومفكريه، ومثقفي ومفكري المغارب والعالم العربي والأوروبي والأسيوي متى ما دعت الضرورة إلى ذلك، ومتى ما أريد إبراز الوجه اللامع والمشرق للقطب الاشتراكي الديمقراطي ببلادنا.
هكذا، تَنْعَلِنُ القطبية مباشرة بعد هذا القرار التاريخي، المسؤول والانعطافي، من حيث نجح في فك الارتباط بحزب الاستقلال ذي المنزع والمرجعية الإسلاميتين القريبتين من منزع ومرجعية حزب العدالة والتنمية؛ وذي المنحى اليميني المحافظ. فلا غرو أن يَنْشَدَّ القرين إلى القرين، ويعود الإِلْفُ إلى إِلْفِهِ، ما دام أن المحافظة والتعادلية يُكَوّنَانِ مشتركا إبستمولوجيا، وقاسما بيداغوجيا وتربويا وسياسيا بين الحزبين.
وترتيبا عليه، فإن المشهدية السياسية بالمغرب تتمظهر كمايلي :
يسار معارض مشخص في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بوصفه القطب الجامع، ويمين حاكم مشخص في أحزاب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال، وحزب الحركة الشعبية، ووسط ليبيرالي يضم كلا من حزب التجمع الوطني للأحرار، وحزب الاتحاد الدستوري، وحزب الأصالة والمعاصرة. أما النغمة النشاز –راهنا- فهو حزب التقدم والاشتراكية الذي التحق بالحكومة اليمينية الدينية المحافظة، وهو الذي يحمل مشروعا مجتمعيا تقدميا ومتقدما ! وماذا سيفعل بالمشروع المجتمعي إياه وسط مشاريع الحيتان الكبيرة؟ هل نعتبره ربانا تاه مركبه وسط الإعصار ؟ لننتظر أداءه ودوره، وموقعه المثير للشفقة وسط الزحمة الزاحفة، والديناصورات التي لا ترى !
التحولات الإجتماعية و النخبة السياسية با
إن المرحلة التاريخية التي تجتازها البلاد و طبيعة التحديات المطروحة عليها هي التي فرضت مثل هذا النقاش. حيث أصبحت تطرح بحدة إشكالية تعاقب الأجيال في جميع الميادين؛ خصوصا في الميدان السياسي مع اعتلاء محمد السادس للعرش الذي قال في خطاب العرش ل30 يوليوز 2004 : "و إدراكا منا بأن أي إصلاح رهين بتأهيل الفاعلين و الهيئات، فإنه ينبغي الإنكباب على...تأهيل النخب للمشاركة الديمقراطية وخدمة الصالح العام، تكون صلة وصل قوية بين الدولةو المواطن....لذلك ندعو الطبقة السياسية إلى تحمل مسؤولياتها .... في تدبير الشأن العام من خلال نخب متجاوبة مع عصرها...تجعل من الحكم القويم المحك الحقيقي لممارسة العمل السياسي بمفهومه النبيل"[1] .
إن مثل هذه المطالب و الدعوات الإصلاحية التي عبرت عنها أعلى السلطات في البلاد في أكثر من مناسبة مؤشر مهم على انتظارات الدولة. فالمساءلة ذات أهمية قصوى مع تعمق التحولات و تعدد الرهانات مما يفسر راهنية الإستفهام حول نمط أو أنماط إنتاج النخب و صيرورة التنخيب .إن هذه المساءلة السياسية،أوالمساءلات مادامت الدعوة الملكية واكبتها و أعقبها سيل من الدعوات التي أصبح يعج بها الحقل السياسي[2]، تجد أسسها النظرية الضمنية أوالمعلنة في أطروحة الجمود.مما يستدعي وبإلحاح المساءلة العلمية كعمل ممكن ،الذي لايطرح البتثة نفسه كبديل للمساءلة السياسية، بمساءلة خلفيتها النظرية وبتجنب ثغراتها كواجب ملح في هذه الآونة.
من أجل ذلك حاولنا رصد النخبة السياسية في علاقتها بمحيط متحول مع مساءلة ضمنية للطروحات النظرية السائدة التي تهم الموضوع في بعديه عبر الإجابة على الإشكالية المركزية التالية:
مدى تأثير التحولات الاجتماعية على النخبة
السياسية المغربية ؟
و قد ارتبط هذا السؤال المركزي بالأسئلة الفرعية التالية:
ما هي التحولات الاجتماعية التي عرف المغرب؟ و ما هي المتغيرات التي تفسرها ؟ و ما هي نسبة تأثير كل عامل على حدى ؟ و ما هي الإفرازات السياسية لهذه التحولات ؟ و ما هي أثارها على النخبة السياسية ؟ و هل تأثيرها متماثل على كل مكوناتها ؟ و مستويات بنيتها ؟
في ما يتعلق بتحديد الفترة الزمنية فمن الواضح أنني لم أستطع الوقوف في حدود المرحلة الراهنة ولا حتى في حدود مغرب الإستقلال لاعتبارين أولهما منهجي يكمن في أن أطروحة الجمود، التي نسعى الى نقدها، تشمل مرحلة الحماية والإستقلال. كما أن الانقسامية مرتكزها المنهجي اعتمد على السوسيولوجيا الكولونيالية التي تناولت منتجاتها مغرب ما قبل الحماية.أما الإعتبار الثاني وهو ،على مستوى المضمون، أن التحولات الاجتماعية التي عرف المغرب تعود جذورها الى مرحلة الحماية. كما أن النخبة السياسية بمفهومها الحديث كأقلية استراتيجية ظهرت في هذه المرحلة على أنها لم تشكل قطيعة مع النخبة التقليدية التي انبثقت من رحمها.
أما مرحلة الاستقلال فقد عرفت تحولات نوعية عميقة أثرت على مواقع وتموقعات النخبة السياسية بصعود البعض وأفول البعض الآخر. كما أفرزت ملامح سياسية جديدة انبثقت من المجتمع المدني و من رحم الدولة. إن تفاعل وتمفصل هذه التحولات يحتمل أن تأثر حسب زمنيات مختلفة على النواة الصلبة لسلوك وقيم النخبة ومواصفاتها ودورانها ونمط إنتاجها.
و قد تم الإستناد في الإجابة عن الإشكالية على فرضية مركزية تعارض فرضية أطروحة الجمود، شكلت عصب الأطروحة و مرتكز بنائها و هي أن التحولات الإجتماعية ستأثر على النخبة السياسية على أن هذا التأثير المفترض ليس خطيا وآليا و لا هو بنفس الإيقاع على مكوناتها ومستويات بنيتها في مختلف المراحل. و يعود هذا المعطى من جهة إلى طبيعة هذه التحولات و دينامية تمفصلها و تفاعلها و إلى طبيعة الدولة القائمة ومن جهة أخرى إلى بنية هذه النخبة و حجمها ونمط إنتاجها و استراتيجية عناصرها.
وفيما يلي أهم الخلاصات القسم الأول :
يبدو أن التحولات الاجتماعية التي اعتملت في الجسم المغربي زمن الحماية تأثرت على النخبة السياسية ،على أن هذا التأثير ليس خطيا و آليا ولا هو بنفس الإيقاع على كل مكوناتها و مستوياتها و في كل الفترات . لأنها تتمثل لعدة متغيرات تكمن في بعدها التاريخي في تاريخ المغرب نفسه ، وما تعرض له من ضغط في القرن XIX و في بعدها السياسي في طبيعة المشروع الاستعماري. وفي ما يلي أهم الخلاصات المؤقتة والنسبية :
1 – إن اصطدام نظامين اجتماعيين و ثقافتين في ظل موازين قوى مختلة في غير صالح المغرب جراء ما تعرض له من ضغط مما أفضى إلى تفكك المجتمع و تدهور إيقاعه. وقد أفضى شدة هذا الضغط ،الذي امتزج فيه العسكري بالتجاري لإرغامه على الانفتاح و توفير الشروط القانونية و البشرية للتكيف مع النظام الرأسمالي، إلى انفجار وحدة النخبة و تفككها تدريجيا حيث عرفت تركيبة الخاصة نوعا من التغيير ولكن في إطار نفس المكونات والوضعيات والتراتبيات .
فالتحولات و إن أفضت إلى تحسين موقع التجار وظهور الٌكتاب فإنها لم تعد النظر في موازين القوى بين مكوناتها. لهذا فقد استطاع العلماء من داخل الخاصة الاحتفاظ على تأثير وسلطة رمزية واسعين. ويعود هذا الوضع إلى تزامن الانفتاح الاقتصادي الإلزامي للمغرب مع عزلة ثقافية وذهنية مما أفضى إلى فشل الإصلاح الذي كان يستدعي تحديث ذهنية النخبة مؤسسة على إيديولوجية إصلاحية في حين فرضت السلفية نفسها على الأنساق الإيديولوجية للتعبير. إن هذا الوضع هو الذي فسر استمرار سياق ابستيمي تقليدي جعل الثقافة السياسية للنخبة تعيق استيعاب الحداثة التي لم تدرك منها إلا لقطات جزئية انعكست مشوهة في مرآة المفاهيم و العبارات المعهودة لديها. لهذا فشل الإصلاح الذي لم يكن سوى رد فعل على الضغوطات التي هيئت البلاد للاستعمار بعد أن أنهكت قواها.
2 – إن التحولات الاقتصادية التي عرف المغرب زمن الحماية لم تصل إلى مستوى التحولات البنيوية. إنها كانت عبارة عن إختلالات في توازن البنية التقليدية الناتجة عن تغلغل رأسمالية ظلت في حاجة إلى دعم الدولة. إن هذا الوضع أنتج مجموعة من الإختلالات القيمية في المجتمع حيث استطاعت أن تخلق قيم الاستهلاك المبثوثة عبر الأجهزة الايديولوجية التي مارست عنفا رمزيا ساهم في خلق الحاجة والرغبة في الاستهلاك أكبر بكثير من القدرات الفعلية لذلك. و قد أفرزت هذه التحولات ارتجاجا كبيرا في البنى الاجتماعية التقليدية. وقد ترتب عن ذلك إعادة ترتيب العلاقة الفرد / الجماعة خصوصا في المجال الحضري التي تميزت وحداته بضعف بناها الإستقبالية. وقد حملت بنية المدن المغربية في مورفولوجيتها و قيمها هذه التحولات لأن عملية الهدم الجزئي التي طالت البنى التقليدية لم تواكبها عملية إعادة البناء .
أما التحولات الإدارية التي عرفت البلاد، فقد استدعي منا رصدها تجاوز المقاربة القانونية لأن المؤسسات لا أهمية لها في ذاتها بل في الفكرة التي تحمل والممارسات والديناميات التي ينتج اشتغالها كعلاقة اجتماعية مهيكلة للسلوك الفردي والجماعي. و تعود طبيعة هذه التحولات إلى أن دولة الحماية تمثلت لخصوصية ظاهرة الدولة الأمة في نسختها الفرنسية وللثقافة الإدارية لنخبتها و الوضع الداخلي للبلاد. إن تمفصل هذه المتغيرات حددت مجتمعة كيفية اشتغال مؤسسات الحماية على مبدأي الإصلاح و المراقبة. مما أفضى إلى بناء نسق سياسي – إداري يمكن نعته بالبيروقراطية – البيريمونيالية يمكن التمييز من داخله بين المنطق و الدينامية المتمثل في الإستأثار باتخاذ القرار و رسم السياسات الهادفة إلى إعادة إنتاج النظام ، وهذا ما يحيل للخلاصة الموالية .
3 – إن النظام التعليمي الذي أحدتثه فرنسا كان إحدى الدعامات الرئيسية لسياستها و قطب رئيسي في مشروعها في بعده الثقافي و أحد أهم المسالك وأقواها للتحديث و العصرنة . فالمدرسة الاستعمارية من مظاهر تمفصل حضارتين مختلفتين و أداة إنتاج و إعادة إنتاج نخبة وسيطة تسهل وجوده وتضمن استمراره. على أن خصوصية هذه الأجهزة في المجتمعات المستعمرة تكمن في عدم استقلالها وتوظيفها من طرف السلطة السياسية. بالإضافة إلى خصوصية المدرسة الفرنسية في هذا المجال التي كانت نموذج و مخيال تربوي بمثابة مرجعية للسياسة التعليمية الفرنسية في المغرب. وقد استدعي منا تحليل السياسة التعليمية الفرنسية بالمغرب الابتعاد عن الأحكام المسبقة و تتبع سيرورتها لاستشفاف ديناميتها. فمن منطلق كونها سياسة عمومية فهي إشكال وعمل يحمل في طياته تعارض الرهانات و المواقف الموضوعية تم السعي إلى تحديدها. أما كونها استراتيجية فقد حملت انتظارات وحسابات ودينامية الحركة مما استدعى الابتعاد عن الأحكام المطلقة التي تجمد وتختزل الظاهرة في خصائص ماهوية و أخلاقية .
إن إفرازات السياسة التعليمية من زاوية النخبة تكمن في خلق ملامح جديدة مبنية على رأسمال ثقافي / رمزي مكتسب انضاف إلى ملامح نخبة تقليدية امتزج بها و تناسل معها لأن زبناء التعليم العصري كانوا من أبناء الأعيان. لهذا فتأثير السياسة التعليمية في سيرورة التنخيب و ملامح النخبة تشكل في تراكبها مع سيرورة و الملامح التقليدية لفئة الخاصة. كما أن هذه العملية لعبت فيها الإستراتيجية العائلية ولعبةالتحالفات دورا هاما للدخول في حلقاتها الضيقة و وراثة امتيازات ومواقع الطبقة الحاكمة السابقة واستثمار الحقل المدرسي و توظيفه كرأسمال اجتماعي و رمزي جديد .
4 – إن تأثير التحولات الاجتماعية على النخبة المغربية رهين تفاعل المتغير السياسي – الإيديولوجي المتمثل في المشروع السياسي الاستعماري مع المتغير التاريخي المتمثل في تاريخ المغرب. لهذا فمن زاوية الدعامات الاجتماعية فقد تحالفت الحماية مع النخبة التقليدية التي تتأسس على المصادر التقليدية للسلطة من مخزن وقبيلة و زاوية برموزها وشاراتها. أما نخبة الحركة الوطنية فقد انبثقت من رحم 'الخاصة' كمجموعة استمرت في فرض نفسها وقد تجلى ذلك في تبوأ عناصرها ،وبالأخص المنحدرين من فاس، بمكانة متميزة. على أن هذا لا ينفي تأثر النخبة المغربية بالتحولات الاجتماعية والتعليمية التي أحدتثها الحماية في جسمها مما أفضى إلى إضافة ملامح أخرى إلى ملامحها السابقة خصوصا التعليم و صغر السن و الإحتراف السياسي بالإضافة إلى دخول ملامح جديدة في دائرتها تنتمي على منحدرات اجتماعية متواضعة و لو بشكل محدود جدا دون خلخلت التراتبات السابقة.
لهذا فالظاهرة الحزبية كمؤشر بداية انطلاق مسلسل الإحتكار السياسي و الثقافي من طرف فاعلين ينتمون لفئة الخاصة ظهرت في المدن التاريخية كفاس و تطوان والرباط. و قد قدمت هذه الفئة نفسها عبر هذه البنيات كاستمرار للمواجهة السابقة بكل التناقضات التي حمل المجتمع في جسمه في أزمته التاريخية. فالوطنية المغربية تحيين مكتسبات الشعب المغربي و المرآة التي يفكر من خلالها في تطوره و هي محددة ببنية المخزن ورد فعل جماعة العلماء و المنهجية السلفية في ردها على الخطر الخارجي الذي تعرض له في القرن XIX. على أن هذا لا يعني جمود هذه الوطنية التي مرت من ثلاث مراحل هي التخلي و العزوف ، فالقبول و المشاركة ثم النقد والتجاوز. لهذا طرحت الوطنية نفسها كبديل فيما بعد لنظام الحماية بعد أن كانت تسعى إلى إصلاحه . و هو ما عبر عنه دفتر مطالب الشعب المغربي الذي تمثل لمنطق المرحلة والذي رمز إلى حد ما إلى بداية تحول ثقافة الاحتجاج السياسي للنخبة من طابع التلقائية المعبئة للجماهير / الرعايا عبر آليات و تقنيات تقليدية إلى ثقافة سياسية تسعى إلى الإصلاح بطرح برنامج الذي أفضى عدم الاستجابة لها إلى المطالبة بالاستقلال .
هكذا تمثل السلوك السياسي للنخبة لثقافتها التي اتسمت بالتقليدانية والاستمرارية والانتقائية. إن هذا الوضع سمح بتوظيف قنوات و ميكانيزمات حديثة كالاحتجاج والعرائض والمشاريع الإصلاحية والبيانات، بالإضافة إلى أنماط حديثة للإنتاج السياسي تمثلت في البنى الحزبية التي نسجت علاقات مثينة مع البنى التقليدية خصوصا الزاوية. على أن هذه البنى والسلوكات الحديثة لا تختزل/تحتكر السلوك السياسي للنخبة بحكم أن المجتمع كان تقليديا و شفويا. كما أنها لم تكن ستاتيكية بل دينامية يستدعي رصدها أخذ سياقها وديناميتها التي تتمثل لأسسها الإجتماعية و لمنطق تبادل الضربات سواء أثناء بروز بوادر الفعل السياسي على إثر إقدام الحماية على إصدار الظهير البربري أو في المرحلة الإصلاحية التي طالبت فيها النخبة بتحسين الوضع في إطارها على أن عدم الإستجابة وفي سياق تجديد قراءتها للوضع أفضى بها إلى المطالبة بالإستقلال.
نتساءل من داخل هذه الخلاصة التحولات الإجتماعية في مغرب الإستقلال و مدى تأثيرهاعلى النخبة السياسية؟
خلاصة القسم الثاني
الخلاصة المركزية لهذا القسم ان التحولات الإجتماعية التي راكم مغرب الإستقلال اعتملت في جسم النخبة السياسية. على أن تأثيرها ليس خطيا و لا آلايا و لا هو بنفس الإيقاع على مختلف مكوناتها. و يعود هذا الوضع إلى متغير سياسي يتمثل في طبيعة و خصوصية الدولة المغربية وما حام حولها من صراع بين الفرقاء السياسيين. على أن هذا المتغير ليس ستاتيكيا بل متحركا على إيقاع دينامية الحقل السياسي نفسه مع تحول العلاقة بين الفاعلين و تأثير التحولات الإجتماعية و الإقتصادية عليه الذي أفضى الى نهاية الدولة النيوبتريمونيالية و في ما يلي أهم الخلاصات النسبية بهذا الخصوص :
1 – إن التحولات السياسية و السوسيو- مجالية ستفضي إلى ترتيب و إعادة ترتيب النخبة السياسية المغربية. فالصراع بين الملكية و النخبة الوطنية حول تصورات بناء مغرب الإستقلال ستفضي تديجيا وعبر محطات ثلاث إلى " الموت البطيئ " لنخبة الحركة الوطنية مقابل صعود الأعيان القرويون و النخبة العسكرية التي تراجعت بدروها تحت ذوي المغامرة الإنقلابية.
أما التحولات المجالية و ما افرزته من تقلص الفضاء القروي مما أفضى إلى فقدانه رهاناته السياسية الناتجة مما أدى إلى أفول نجم النخب القروية وصعود النخبة الإدارية. و قد نتج نمط تدبير هذه الأخيرة للمجال، المهوس بهواجس الضبط بدل التنمية، مجموعة من الإختلالات في وقت تزايدت فيه المطالب الإجتماعية و التنموية مع التحولات الديمغرافية. إن النتجة الطبيعية لذا الوضع هو تمزق النسيج الإجتماعي الذي هدد استمراره قدرات الدولةعلى مراقبته وإحتوائه. و قد تمثلت الإختلالات المجالية بأساس في حركة التمدين المتوحشة و تزايد الهوة بين المدن و القرى وصعود مجموعة من الآفات الاجتماعية خصوصا الفقر والبطالة. إن هذه الآفات افضت من زاوية العمل الجماعي إلى الإنتقال من الانتفاضة المدوية إلى المظاهرة السلمية المراهنة على أخذ الكلمة في المجال العمومي.
أما الوجه الآخر لتأثير هذه التحولات على النخبة السياسية هو تفاقم أزمتها. مما أفضى الى انسلاخها المتزايد على المجتمع وابتعادها عنه ومن تم عدم قدراتها على تعبئته والتعبير عن مطالب أصبحت تحملها نخبة نابعة من المجتمع المدني كالنخبة النسوية والنخبة الإحتجاجية الجديدة.
2 – بخصوص التحولات الإقتصادية نستطيع القول، أن الأزمة التي بدأت معالمها تلوح في الأفق منذ بداية السبعينات ستفضي على تناقص القدرات التوزيعية للدولة. مما فرض عليها تحت ضغط مؤسسات النقد الدولي إلى نهج سياسة تقشفية اتخذت شكل سياسات تقويمية مرت على إثره البلاد من رأسمالية الدولة المأزومة إلى مسلسل البناء ' الليبرالي'. إن هذا التحول كان على إيقاع أزمة تحيل في العمق إلى تساكن منطقين أحدهما مالي محض عائد إلى عجز على مستوى تراكم الرأسمال المصروف على نظام المشروعية المحيل بدوره إلى المستوى السياسي المتمثل في الدولة النيوبتريمونيالية. إن تناقص القدرات التوزيعية للدولة ،بحكم ندرة الموارد، سيفضي إلى تصدع أسسها إيدانا 'بنهايتها' بفعل تراجع الدولة والخوصصة. على أن منطقها سيستمر من داخل الأزمة بتدبيرها للسياسات التقويمية ومسالك تخصيص المقاولات العمومية لأنها لم تفقد مع ذلك كل قدراتها مما أفضى إلى تسييس و’مخزنة’ الإقتصاد.
كما أن العولمة والشراكة الأورو-متوسطية ستشكل إكراهات إضافية وستفرز في النسيج الإقتصادي مع ما تحمله من تحديات وانتظارات تستدعي إصلاحات بنيوية في إطار دولة القانون الإقتصادي والحكامة الجيدة. في حين تحولت بحكم تمركز السلطة السياسية و الإقتصادية وبنية الإقتصاد السياسي المغربي إلى حملة تطهيرية بهواجس ردعية و مخزنية. وسيتخذ تأثير هذه التحولات الإقتصادية على النخبة السياسية طابعين فمن جهة ستفضي إلى بروز ملامح جديدة تمثلت في التكنوقراط و الدخول السياسي غير المسبوق للمقاول في المشهد السياسي الذي طبع بالنمطية الإقتصادية وهو ما يحيل إلى المستوى الثاني، المتمثل في دخول قيم النذرة والعقلنة إلى الحقل السياسي مما جعل تمثل و تدبير الشان لعام كتدبير النذرة كإستجابة و تكيف مع التحولات و الإكراهات الخارجية والداخلية.
يلاحظ أن تأثير هذه التحولات ليس خطيا ولا هو بنفس الإيقاع على مختلف مكوناتها، فبحكم طبيعتها فهذه التحولات ستأثر اكثر على النخبة الإقتصادية. على أن تعدد حلقاتها واختلاف مواردها السياسية والرمزية وتعدد سجلات عملها، سيجعل التأثير متباين بين ظهور ملامح نخبة سياسية 'جديدة' متمثلة في التكنوقراط والمقاولون وبين إستمرار لملامح قديمة ممايحيل إلى الخلاصة الموالية.
3 – إن تأثير التحولات الإجتماعية على النخبة السياسية، وحسب المعطيات المتوفرة، يستدعي التمييز بين تأثيرات المدى البعيد، حيث أفضت التحولات إلى تعاقب ملامح النخبة السياسية في شكل موجات ثلاث بين الأعيان والإداريين تم تعددية غير مسبوقة تتساكن فيها ملامح المقاول والتكنوقراطي و النخبة المنبثقة عن المجتمع المدني مع بعض الملامح القديمة. هذا على مستوى تعاقب المواصفات ، أما التعاقب من الداخل، وبعيدا عن أية رؤيا إختزالية من قبيل دوران / جمود، يلاحظ توسع حجم النخبة السياسية التي تختلف نسب التغيير والإستمرارية بخصوص النخبة البرلمانية والوزارية مع إختلاف السياق العام للمرحلة وطبيعة العلاقة بين الفاعلين وإختلاف استراتيجياتهم.
نفس الملاحظة بخصوص النخبة الحزبية مع ضرورة التمييز، من باب التدقيق، بين حلقاتها حيث تعرف الدنيا (المكاتب الإدارية) و الوسطى (المكاتب السياسية) بالإضافة إلى توسيع الحجم نوعا من التداول في حين تعرف الحلقة العليا (الأمانة) نوعا من الإستمرارية.هذا التحول الكمي لم يواكبه تحول نوعي على المستوى الثقافي مما يفسر استمرار ثقافة تنظيمية عبارة عن ثقافة الشيوخ. ويعود هذا الوضع إلى تزايد مطالب التنخيب التي شكلت ضغطا على بنية النخبة في وقت تراجعت قدرات الدولة على الإستجابة في سياق تناقص قدراتها التوزيعية في شكل عروض. من نتائج هذا الوضع خضوع دينامية سوق النخبة السياسية لقاعدة تضخم الطلب و قلة العرض. وتعود أسباب هذا التشكل إلى التحولات الديمغرافية و التعليمية و إلى استمرار نمط إنتاج النخبة السياسية كانعكاس لإستمرار آليات إعادة إنتاجها خصوصا في ما يخص الأسرة و الشبكات الزبونية. في المقابل عرفت المدرسة و الشهادة، بحكم تحولات النظام التعليمي ، تطورات مع استمرار السلطة الرمزية للشهادات المحصل عليا في الخارج، خصوصا حين يكون حاملها ينتمي إلى الأسر ذات الراسمال السياسي و الرمزي و الإقتصادي.
أما بخصوص تأثير التحولات على المدى القصير، فعلى مستوى التمثلات السياسية للنخبة، لوحظ تقاطب لا ينفي التعدد بين من استمر في تمثل السياسة كمقاومة وصراع مقابل من أصبح يتمثلها بنوع من الواقعية و البرغماتية في أفق إصلاحي كتدبير للندرة في إطار تكيف خط المساومة مع التحولات السوسيو-سياسية.
إن هذا التحول سينعكس على خطاب النخبة السياسية بظهور قاموس سياسي جديد، دخل الفرقاء بخصوصه في صراع حول المعنى. مما أفضى إلى إنتاج مصطلحات و مفردات كالتراضي والتوافق والتناوب التي تعكس على مستوى سجلات الممارسة، في سياق التحولات الإيديولوجية وما أفرزت من أزمة مرجعية وهوية لأجزاء واسعة من النخبة السياسية مما انعكس على كيفية دخول وتدبير التناوب في أجندة الفاعلين كتعبير عن ملامح سلوك استراتيجي من منظور ظرفي تتعدد تأويلاته بتعدد وضعيات هذه النخبة نفسها واستراتيجياتها.
إن تقديم النتائج بهذا الشكل على مستوى المضمون يستدعي تجميع الخلاصات على المستوى المنهجي، خصوصا وأن الموضوع تسود بخصوصه طروحات كانت منتقدة، ويبدو مع التحليل انها أصبحت متجاوزة. فقد هيمنت على دراسة النخبة السياسية المغربية أطروحة الجمود التي تعد كتابات ريمي لوفو و جون واتربوري[3] نواتها الصلبة ومرجعها الأساسي. ويرى هذا الأخير أن النخبة المغربية متشردمة لعدة إعتبارات اولها هي البنى الإجتماعية الجامدة والإنقسامية، وثانيهما طبيعة النظام السياسي واستراتيجيته كنظام انقسامي يخضع لهرمية سياسية بين فروعه وأجزائه. إن تبني الإنقسامية كإطار نظري لرصد الظاهرة أفضى به إلى إعتبار الوسط المغربي تلفه ثابتية الهياكل القائمة والإستراتيجيات المتعلقة بهما، حيث اعتبر الجمود خاصية ملازمة للمجتمع[4] .
إن قصور الطرح الإنقسامي يكمن في نظرته الستاتيكية للمجتمع و النخبة مما جعله يتغاضى عن معطيين أساسيين أولهما أن الحدث الهام في مغرب الإستقلال هو بروز دولة مركزية حاضرة في مجموع التراب الوطني، كنتاج تلاحق الإرث المخزني مع التكنولوجيا السياسية للدولة الامة في نسختها الفرنسية. لهذا فمرحلة الحماية ذات أهمية خاصة في هذا التحول مع ما واكبها من تحولات إقتصادية و إجتماعية، جعل النخبة، وهو المعطى الثاني، محدد في البنية والدينامية الإجتماعية[5]. و لكن رغم هذه الأهمية لوحظ هيمنة المنهج التاريخي الوصفي الذي حاصر البحث العلمي للظاهرة الإستعمارية والذي ضخم من أهمية الماضي المقروء قراءة ستاتيكية معيارية تضع في قفص الإتهام اللحظة الإستعمارية بأسرها. في حين أن إعادة قراءة الظاهرة ونقيضها ،الظاهرة الوطنية، ممكن علميا، وهذا ما حاولنا القيام به بالإستفادة من خفوت المواجهة بين الخطاب الوطني والكولونيالي، وتنامي دعوات إعادة اكتشاف الظاهرة الإستعمارية (la réinvention du phememene colonial) التي أعقبت مطالب إعادة التفكير فيها.
ومع حصول المغرب على الإستقلال سيعرف تحولات ماكرو وميكرو اجتماعية من مظاهرها وإفرازاتها احتلال الفرد تدريجيا لمكانة متميزة كفاعل إجتماعي. كما أن التحولات السياسية والسوسيو – مجالية و الإقتصادية عكست دينامية اجتماعية اثرت على النخبة السياسية وأثبتت منهجيا و واقعيا أن أطروحة الجمود أصبحت متجاوزة.
إن المسعى الذي سلكناه لنقد أطروحة الجمود، برصد النخبة السياسية في علاقتها بمحيط إجتماعي متحول ، واجهته عدة صعوبات علمية وابستيمية. و تكمن هذه الصعوبات في هيمنة طروحات نظرية على دراسة المجتمع المغربي من إنقسامية[6] وثنائية[7] وتركيبية[8] وبتريمونيالية. و تعد هذه الطروحات، والتي تلتقي نظريا ومنهجيا مع أطروحة الجمود، بحق عائقا لدراسة المجتمع في ديناميته.
وقد أثبت التحليل أن هذه الطروحات لم تعد تعبر بطريقة مطابقة عن طبيعة ومستوى التحولات الإجتماعية التي يحمل المجتمع المغربي في جسمه. لأنها تغيب التحولات الفعلية التي اعتملت في الجسم المغربي لتبقى مع ذلك إشكالية تحديد طبيعة المجتمع في سياق التحولات قائمة .