التدبير الاستراتيجي في خدمة التنمية المح
نظرا للتغييرات المتعددة التي شهدتها بيئتها العامة بمختلف مكوناتها (القانونية, الاقتصادية, الاجتماعية) مع ازدياد مطالب المواطنين من اجل تحسين الخدمات واتساع المهام و الصلاحيات المخولة لها في إطار اللامركزية بالإضافة إلى تقلص الموارد المالية المتاحة و اشتداد المنافسة بين مختلف الفضاءات الترابية (الجماعات, الأقاليم, الجهات) لجلب المستثمرين و استقطاب المقاولات(BENNETT et SAVANI :2003, pp. -7170) , لم تجد الفرق المسيرة لكثير من هذه الجماعات بدا من الاستئناس بالمقاربة الإستراتيجية لبناء مشروعها التنموي المحلي. وإذا كانت الجماعات المحلية بالخارج قد استعانت بهذه الأدوات منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي, فان التجربة المغربية في هذا المجال لا تزال في بدايتها مما يحتم على الباحثين الاهتمام بها دراسة ومتابعة. ولما كان نجاح هذه المبادرات رهينا بمرحلة التطبيق والتنفيذ و بمدى دعم المواطنين لها عبر مشاركتهم في مختلف الأوراش, كانت هذه الورقة التعريفية بها وبالتجارب التي عرفتها مدن وجهات مختلفة من العالم.
نظرة على العالم :
من التأقلم مع البيئة
عند انطلاق التجارب الأولى في بداية الثمانينيات من القرن الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية , استلهمت الجماعات المحلية (من مدن و مقاطعات وولايات) نموذج التخطيط الاستراتيجي الذي وضعه خلال فترة الستينيات باحثو كلية هارفارد للأعمال والذي اشتهر تحت أسماء متعددة مثل نموذج L G A C حيث تشير إلى الأحرف الأولى لواضعيه وهم: E. Learned, W. Guth, K. Andrews and C.Christensen. ويشتهر أيضا باسم مصفوفة SWOT: Strenghs / Weaknesses/Opportunities/ Threats . هي الأحرف الأولى للكلمات الانجليزية التي تعني : نقاط القوة, مكامن الضعف, الفرص المتاحة و التهديدات . ويعرف أيضا بالاسم الذي يختصر المرادفات الفرنسية للكلمات السابقة : F .F. O. M. – Forces / Faiblesses / Opportunités / Menaces ترتكز هذه المقاربة – التي شاع استعمالها بين مختلف المنظمات من مؤسسات خاصة و هيئات عمومية – ( : 2001 Favoreu) على تشخيص الوضع لمعرفة مواطن قوة الجماعة المحلية المعنية (من كفاءات و إمكانيات متوفرة بالمنطقة) ونقاط ضعف (كنقص التجهيزات والبنية التحتية) و مقارنته بما تتيحه بيئتها من فرص أو تمثله من تهديدات وبما يسعى إليه مختلف الفر قاء (مواطنون ,جمعيات المجتمع المدني , فاعلون اقتصاديون ). وبناء على هذا التشخيص من جهة و على طموحات الفريق المسير للجماعة من جهة أخرى, يتم تحديد المشروع أو المخطط باختيار المستهدفات الكفيلة بتلبية الحاجيات الاجتماعية باستغلال نقط قوتها و التخفيف من مواطن ضعفها مع ترتيب برامج العمل و تقدير الموارد اللازمة لتحقيقها و اختيار الطرق الأنسب لانجازها (التدبير المباشر أو المفوض)( : 1995 Louis).
وإذا كانت هذه المقاربات الإستراتيجية التي وضعتها الجماعات المحلية و خاصة الكبرى منها لمواجهة تقلبات بيئتها قد حملت مسميات مختلفة مثل "مشروع المدينة أو المنطقة " و "المخطط الاستراتيجي" أو"الميثاق الحضري", فإنها تعبر في مجملها عن طموح مشترك يتقاسمه الفاعلون المحليون و يتمثل في برامج و أولويات موجهة نحو المستقبل : 1997) Bartoli ).
إلى محاولة استباق متغيرات البيئة و ا لتاتير عليها :
مع التطور الذي عرفه الفكر الاستراتيجي في بداية عقد التسعينيات , سعت الفرق المسيرة للجماعات المحلية إلى توظيف المقاربات الجديدة كمفهوم الرؤيا أوالارادة الإستراتيجية, الموارد و الكفاءات , الشبكة, لوضع خطط تسعى من خلالها ليس للتأقلم مع بيئتها وإنما لتعبئة الموارد اللازمة على المدىالمتوسط و الطويل و استغلال المميزات الترابية لتحقيق طموحاتها و مشاريعها بالثاتير على بيئتها ففي ضوء هذه المقاربة, تعكس القيادة الإستراتيجية إرادة الفرقة على انجاز البرامج المسطرة للوصول إلى الأهداف المحددة مع القدرة على مقارنة الهوة أو الفرق بين الوضعية الحالية و المكانة المنشودة كما هي مسطرة في "المشروع الجماعي"( :2003 Rochet). فهدا الأخير يعكس طموحا عاما قادرا على تعبئة جهود و التزامات جميع الفر قاء و في نفس ألان يمثل المستقبل المأمول اد انه يتضمن الخطوط العريضة على المدى الطويل التي ياخدها هؤلاء بعين الاعتبار عند وضع برامجهم الخاصة و هكذا , يمكن المشروع من توظيف الكفاءات المحلية و المقدرات التنظيمية للفريق المسير لإنجاح مجمل التغييرات المنشودة كما يدل على ذلك ما وصلت إليه العديد من المدن و الجماعات من تقدم باهر.
ويمكن الإشارة في هذا الباب إلى المدن التي عانت من انهيار الصناعات الثقيلة و الأنشطة الصناعية التقليدية كالفحم أو الحديد و الصلب وما ترتب عن ذلك من البطالة و الهشاشة الاجتماعية بالاضافة الى تدهور البنيات التحتيةوالمرافق العامة مثل برمنغهام الانجليزية (Favoreu : 2003) أو فالنسيان الفرنسية (Zergout et Amrani : 2004) وكدا مدينة شرلوط بولاية كارولينا الشمالية بالولايات المتحدة الأمريكية.وهكد ا, وضع الفريقان المسيران للمدينتين الاوروبيتين استراتيجيتين لتشجيع ظهورانشطة اقتصادية بديلة ودلك بتعبئة الاستثمارات العمومية اللازمة ولقد وفرت هده الصناعات الناشئة فرص شغل جديدة للسكان. اما ادارة ومجلس مدينة شارلوط الامريكية, فقد استغلا الأزمة المالية التي عانت منها في بداية التسعينيات ( من جراء إلغاء الولاية لمنحة مالية وقروض مهمة) لوضع إستراتيجية موجهة إلى المواطن الزبون من اجل تطوير الخدمات المقدمة إليه و التحكم في النفقات مع إشراك الموظفين وباقي الفاعلين (Kaplan et Norton : 2001).و هناك أيضا المجالس المحلية (مثل برشلونة الاسبانية , شارلوروا البلجيكية و ليون الفرنسية) التي استعانت بهذه المخططات لضبط النمو الاقتصادي وضمان استمرارية الرؤيا والاتجاهات العامة على المدى الطويل (Favoreu : 2003).
الوضع بالمغرب :مبادرات متنوعة :
منذ سنوات قليلة, دأبت وسائل الإعلام الوطنية على الإشارة إلى المبادرات التي انطلقت في عدة مدن مغربية للاستعانة بمقاربات التدبير الاستراتيجي لوضع مخططات لتحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية المحلية. و لقد ساهم فيها بالإضافة إلى المجالس المحلية (من جماعات و مجالس جهوية) قطاعات حكومية وفروع بعض المؤسسات الدولية للتعاون إلى جانب المنظمات غير الحكومية من هيئات المهنيين والمجتمع المدني.
ففي سنة2004 أنهى مجلس جهة سوس ماسة درعه وضع مخطط طويل المدى للتنمية بناء على دراسة إستراتيجية تم إعدادها بمساعدة مكتب الاستشارة Mckinsey "ماكنزي ". وهكذا, تم تشخيص الوضع (بثلاثين قطاعا وبعشرة مناطق تم تقسيم الجهة لها) قبل اختيار القطاعات التي سيعتمد عليها مستقبل الجهة وهي السياحة والفلاحة والصيد البحري كما تم تحديد الاوراش اللازمة لتأهيل الجهة في 70 مشروعا (Moujahid) . كما استعان المجلس بمكتب آخر( هوValyans "فاليانس ") لتنفيذ هذا المخطط . و أخيرا, انشأ , بمساهمة صندوق الإيداع والتدبير و مجموعة من البنوك , صندوقا جهويا للاستثمار تحت اسم "ايكران" لدعم عملية تمويله و لتشجيع الاستثمارات الخاصة (زهوي, Foulani). وفي سنة 2005أعطيت انطلاقة الأشغاللوضع المخطط الاستراتيجي للتنمية الخاص بجهة دكالة عبده بشراكة بين مجلس الجهة و المركز الجهوي للاستثمار ووزارة إعداد التراب الوطني والماء والبيئة و بدعم من الولاية (Zentar) كما عرفت عدة مدن(مثل صفرو, المحمدية, برشيد ) فتح اوراش لصياغة مشاريع للتنمية بناء على المقاربة الإستراتيجية (ياسين , بوسليمي) .ومن جهة أخرى, أنجزت عدة دراسات حول إستراتيجية التنمية الجهوية و الأقطاب الجهوية من طرف بعض المؤسسات كصندوق الإيداع والتدبير (جهة فاس بولمان ) والمؤسسة الأمريكية للتعاون الدولي (دراسة حول التكامل بين جهتي الدار البيضاء و الشاوية ورديغة)( الأبيض Jafri, , Saad Alami).ومن بين المبادرات التي اعتمدتها الجماعات المحلية بالاستئناس بهذه المقاربات , تجدر الإشارة إلى ما يعرف ب"مفكرة 21 المحلية"Agenda 21 local و هي برامج محلية لتحقيق التنمية المستدامة ولحماية البيئة أقرتها ندوة "ريو دي جنيرو " حول البيئة التي انعقدت سنة 1992 مع اخرى تحمل اسم ‘’الحواضر المستدامة ‘’ Les Cités Durables . وتهم المجموعتان ما يقارب 6000 مدينة في العالم .وبعد تجربة بمدينة الصويرة سنة 1996, انطلقت الاوراش الممهدة لهذه البرامج سنة 2002بدعم من وزارة إعداد التراب الوطني والماء و البيئة و بمساعدة "برنامج الأمم المتحدة للتنمية" و "منظمة الأمم المتحدة للسكنى" في ثلاث جماعات مغربية هي مراكش, مكناس و اكاديرقبل أن تشمل شيشاوة في شهر فبرائرمن عام 2005 تم قلعة السراغنة في شهر مايو من نفس السنة و ذلك في اطارمشاورات موسعة بين عدد من الفاعلين (المستشارون الجماعيون ,المصالح الخارجية للدولة ,جمعيات المجتمع المدني ,القطاع الخاص ,الباحثون الجامعيون). و بعد تشخيص الوضع , يتم تحديد برامج العمل داخل اوراش قطاعية) شملت في جماعة مكناس’’ تدبير الماء’’ ,’’ العناية بالثرات التاريخي’’ و اخيرا’’ تحسين ظروف الحياة و التعريف بالمدينة كقطب جهوي( ‘’ على أن تنفذ هذه البرامج مبدئيا من طرف الفرق المسيرة لهذه الجماعات ( Le Matin).وأخيرا, يجب ذكر الدورات التدريبية التي نظمت من طرف المديرية العامة للجماعات المحلية وبعض المؤسسات مثل وكالة التنمية الاجتماعية لفائدة مختلف الفاعلين المحليين و ذلك من اجل تعريفهم بأدوات التخطيط الاستراتيجي الكفيلة بتحسين طرق إعداد مخططات التنمية المحلية و وسائل تنفيذها و تعديلها وفقا للمستجدات (Mouhcine). وفي هذا الإطار تم إنشاء معهد الخبرة للتنمية بالرباط في شهر مايو من سنة 2005 كمركز للتكوين المستمر للخبراء المغاربة و الأجانب في مجال التنمية المحلية.
خاتمــــــــــــــــــــــــــة :
لقد أدى تراكم التجارب الذي أنتجته الأجيال المتعاقبة من المخططات الإستراتيجية المحلية في كثير من مدن العالم إلى نتائج هامة خاصة فيما يتعلق بالتأسيس لحكامه عمومية محلية تشاركيه فعالة ضمنت تعبئة طاقات جميع الفر قاء و مشاركتهم لانجاز المخططات المرسومة وتحقيق الرؤيا الجماعية. ويمكن للفاعلين المحليين الاستفادة منها لإنجاح المقاربات الإستراتيجية المحلية التي انطلقت أخيرا بالمغرب . ومن أهم هذه النتائج, ضرورة تجاوز الخلافات بين أعضاء المجلس المحلي (من أغلبية و معارضة) و توافقهم على التوجهات العامة ( المكونة للرؤيا الجماعية على المدى البعيد و الطموح المشترك لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة) لضمان أوسع مشاركة من طرف باقي الفر قاء المعنيين من جهة, و استمرارية هذه التوجهات حتى مع تغير تركيبة الفرقة المسيرة للجماعة خلال الولايات الانتخابية اللاحقة من جهة أخرى.
A découvrir aussi
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 2 autres membres