اللامركزية الإدارية ومساهمتها في التنمية
الملخص :
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مساهمة اللامركزية الإدارية في تحقيق التنمية المحلية. نظرا لما حظي به كل من المفهومين من اهتمام كبير في الخطاب التنموي والسياسي خلال العقدين الأخيرين، وخاصة في البلدان النامية.
وقد حاولت الدراسة تعريف اللامركزية الإدارية وشروطها، وتمييزها عن مفاهيم ومصطلحات أخرى تستخدم أحيانا كمرادفات لها مثل الأقلمة واللاحصرية، كما بينت الدراسة أن اللامركزية الإدارية مفهوم متعدد الأبعاد والمستويات، حسب حجم ونوع الصلاحيات الممنوحة لأجهزة الحكم المحلية.
وكذلك تعرضت هذه المعالجة إلى تطور مفهوم التنمية المحلية وأهدافها، ومدى مساهمة اللامركزية الإدارية في تحقيقها. من خلال دور اللامركزية كإطار لتخطيط وتنفيذ التنمية المحلية، ودورها كذلك في توسيع قاعدة المشاركة الشعبية وترسيخ الديمقراطية المحلية.
وقد خلصت الدراسة إلى ضرورة مراعاة جملة من الإعتبارات عند تطبيق سياسة اللامركزية، لضمان تفادي أي آثار سلبية قد تنجم عن تطبيق مثل هذا النوع من نظم الإدارة .
اللامركزية الإدارية ومساهمتها فيالتنمية المحلية**
مقدمة:
تواجه هيمنة الدولة على إدارة الحكم تحديا كبيرا إثر التغيرات الكبيرة التي تعرفها العلاقة بين الدول والأسواق والمجتمع المدني، بفعل العولمة والتغير التقني السريع. ولم يعد دور الدولة في التنمية بمنأى عن مثل تلك التغيرات؛ ولا أدل على ذلك من تخليها عن الكثير من الأعمال التنموية لفائدة أجهزة للحكم على مستوى إقليمي أو محلي في إطار سياسة اللامركزية.
فالدولة القومية (الوطنية) بعد تراجع هيمنتها، بادرت بالرجوع إلى الهويات الترابية والفاعلين المجاليين المحليين، مما انبثق عنه ظهور ترتيبات مجالية جديدة، وبروز عناصر فاعلة على المستوى المحلي في ظل اللامركزية، والتي اتبعتها الدولة الوطنية بحثا عن أنماط جديدة لاندماجها، ولحل الصعوبات التي تعرفاها هذه الدول حاليا على المستوى الاقتصادي وعلى مستوى عناصر العقد السياسي.
وإزاء تأكد النزعة نحو انسحاب الدولة من الاقتصاد والعمل التنموي والتهيوي على الصعيدين الوطني والإقليمي، وكذلك تراجع المد التضامني العالمي وتضاؤل نصيب بلدان العالم الثالث من الاستثمارات الخارجية المباشرة واشتداد تحركية رأس المال المعولم والمنافسة بين الشركات العالمية، أصبحت التنمية المحلية بديلا ملائما للتدخلات الحكومية المؤقلمة والمكثفة.
ويحاول هذا العمل دراسة دور اللامركزية في تحقيق التنمية المحلية، وسنسعى في المحور الأول منه إلى تحديد مفهوم اللامركزية وتمييزه عن جملة مصطلحات تستخدم على نطاق واسع كمرادفات له، بينما نخصص المحور الثاني لتبيان مفهوم وأهداف التنمية المحلية، على أن يهتم المحور الثالث من هذا البحث بدور اللامركزية في تحقيق التنمية المحلية.
أولا: اللامركزية الإدارية، مفاهيم ومنطلقات
تطبق الدول المختلفة في إدارة شؤونها السياسية والتنموية أساليب إدارة مركزية أو لامركزية أو الاثنين معاً. ويحسن بنا في مستهل الحديث عن علاقة اللامركزية بالتنمية المحلية، توضيح بعض المفاهيم والمصطلحات السائدة في الخطاب الإعلامي والأكاديمي، والتي يستعملها البعض كمترادفات مع اختلافها الكبير، لكن قبل ذلك ماذا نعني باللامركزية ؟
1 – في تعريف اللامركزيةوشروطها
تختلف النظرة إلى مفهوم اللامركزية من بلد لآخر نظرا لتباين الاستراتيجيات المتبعة من طرف الدول، وبصفة إجمالية يمكن القول بأن اللامركزية – التي تمثل بالنسبة للعديد من الدول أداة لتنفيذ سياسة تهيئة المجال – هي عملية ترمي إلى نقل أنشطة اقتصادية وخدمية من منطقة مركزية مسيطرة إلى أقاليم قليلة النمو.
وتعرف اللامركزية الإدارية بأنها <<أي فعل تقوم الحكومة عبره بنقل السلطة والمسؤولية رسميا إلى فاعلين ومؤسسات على مستوى أدنى في تراتبية سياسية وإدارية ومناطقية >> ، فهذا النقل للصلاحيات الإدارية يمكن الأقاليم من مزاولة عمل الدولة فيما يخص تنفيذ ومتابعة وتسيير الاستثمارات العمومية، وينبغي أن يكون تحويل السلطات إلى الأقاليم مصاحبا بتوفير الوسائل المالية الضرورية للتنمية الإقليمية اللامركزية.
كما تعني اللامركزية عند البعض الآخر << أن تعترف الدولة للأشخاص المعنوية الدنيا (بلديات، مجالس جهوية، مؤسسات عمومية) بنوع من الاستقلالية في تسيير شؤونها الداخلية، لكن دائما تحت إشراف ومراقبة السلطة المركزية >> .
وهناك أيضا من يعتبر اللامركزية مسار أو سياقا يتخلى بموجبه مركز عن جزء من سلطاته وامتيازاته، لصالح مجالات أخرى، فهي بهذا المعنى تحويل جزء من الصلاحيات إلى سلطات أدنى .
ويشترط لقيام اللامركزية عناصر أساسية هي :
* وجود مصالح محلية ذاتية تتمتع بالشخصية المعنوية، فإلى جانب المرافق التي تؤمنها الدولة (كالدفاع...)، توجد أيضا خدمات تؤمنها إدارة محلية كتوزيع الكهرباء والماء في الأقاليم، وتتولى الدولة في هذا المجال عملية تحديد المرافق العامة التي تعتبرها وطنية وتلك التي تعتبرها محلية.
ولكي تتمكن وحدات الإدارة المحلية من إدارة شؤونها يجب أن يكون لديها موظفون وأملاك وموازنة خاصة، وأن تمتلك حق التقاضي أي أن تتمتع بالشخصية المعنوية.
* تنظيم مجالس إدارية محلية مستقلة تنتخب من بين الناخبين المسجلين في المنطقة ومن قبل هؤلاء الناخبين.
* أن لا تخضع أجهزة السلطة المحلية لرقابة صارمة من قبل السلطة المركزية، حيث تحقق اللامركزية نوعا من الاستقلال الذاتي غير المطلق، بمعنى أن السلطة المحلية تبقى خاضعة لرقابة السلطة المركزية أو لرقابة ممثليها المحليين، إلا أن هذه الرقابة لا ينبغي أن تكون حادة.
2 – بين اللامركزية والأقلمة واللاحصرية
يجب التمييز بين مفهومي اللامركزية والأقلمة، حيث يعني الأول نظاما بموجبه تدير مجموعة ترابية أو مصلحة فنية ذاتها تحت مراقبة الدولة، بينما يحيل المفهوم الثاني إلى لامركزة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية لفائدة الأقاليم.
كما أنه لا مجال للخلط بين اللامركزية واللاحصرية (عدم التركز) الذي يعني << تحويل جزء من الأنشطة من مركز متشبع إلى أطراف أو مناطق غير متشبعة>> . إن الخلط والمزج بين مفهومَيْ اللامركزية واللاحصرية يستدعي التوقف، ولو بشكل موجز، عند الفوارق الأساسية بينهما:
أ- فاللاحصرية لا تخرج عن مفهوم التنظيم المركزي النسبي، وإنما هي جزء أساسي منه ومرتبطة به عضويا. وهي تعني تكليف السلطة المركزية لممثّلين لها في المناطق، معيّنين من قبلها ويعملون تحت إشرافها، بمهام وصلاحيات محدّدة يمارسونها تحت رقابة السلطة المركزية وفي إطار التسلسل الإداري. وهذا يعني أن السلطات اللاحصرية المتواجدة في المناطق والملحقات، ما هي في الواقع سوى امتداد للسلطة المركزية نفسها، ومن هنا فهي لا تتمتّع بالشخصية المعنوية (باعتبارها من تفرّعات الدولة التي تتمتع هي بالشخصية المعنوية) ولا بالاستقلال المالي (باعتبار أن وارداتها ومصاريفها تدخل في موازنة الدولة في باب موازنة وزارة الداخلية والبريد والمواصلات)، مع استقلال إداري خجول بفعل الرقابة التسلسلية .
ب- أما اللامركزية الإدارية، ومهما يكن الشكل الذي تتخذه، فتتميّز بقيام كيانات قانونية منتخبة على المستوى المحلي، تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلال المالي والإداري، وإنما تخضع لرقابة السلطة المركزية –المحدودة مبدئيا- رغم استقلالها عنها إداريا". وبالتالي، فإن أهم المعايير الواجب اعتمادها للقول بوجود حالة لامركزية هي:
* قيام سلطة عامة محلية، تستمد شرعيتها من القانون الذي يحدّد صلاحياتها.
* تمتّع هذه السلطة بالشخصية المعنوية المستقلة عن شخصية الدولة التي هي جزء منها.
* تمتّع هذه السلطة باستقلال مالي، أي بموازنة مستقلة عن الموازنة العامة، وبمصادر واردات خاصة بها، وبإمكانية إنفاق من ضمن الموازنة. لكن هذا الاستقلال ليس مطلقا، فالسلطة المركزية تحتفظ لنفسها بحق الرقابة، نظرا إلى كون هذه الأموال أموالا عامة، يقتضي فرض الرقابة على سبل جمعها وإدارتها وإنفاقها، وإنما حصرا ضمن حدود القانون.
* تمتّع السلطة اللامركزية بالاستقلال الإداري، أي بإمكانية إدارة أموالها وشؤونها دون الرجوع إلى السلطة المركزية إلاّ استثنائيا .
وفي ضوء العلاقة بين اللاحصرية (اللامحورية) واللامركزية يمكن القول أن الأولى تمثل محطة على طريق تحقيق الثانية، والتي تتخذ هي الأخرى أنماطا ومستويات متعددة.
ثانيا: التنمية المحلية، ووجاهة الخياراللامركزي
أزداد دور الحكومات في الكثير من دول العالم النامي بعد الحرب العالميـة الثانيــة في مجال تزويد السكان بالخدمات المحلية الأساسية كالتعليم والصحة والمياه والكهرباء وشبكات النقل … الخ، وقد أدى هذا التزايد في المسؤوليات الحكومية إلى تركز سلطة صنع القرار التنموي في أيدي الحكومات المركزية المتواجدة عادة في عواصم دولها، وقد نجم عن هذا الوضع ثغرات ومشكلات تنموية عديدة كان من أهمها : ازدياد حدة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية المكانية، سواء على مستوى الأقاليم أو المناطق أو التجمعات السكانية، الأمر الذي جعل الهيئات الأهلية والشرائح السكانية في كثير من الأحيان غير راضية عن القرارات التنموية للحكومات المركزية؛ نظراً لأن هذه القرارات غالباً ما تكون بعيدة عن حاجات ومشكلات ومصالح السكان المحليين في المستويات المكانية المختلفة .
1 - من التنمية القطرية إلى التنمية المحلية
تطور مفهوم ومجال التنمية كثيرا خلال العقود الأخيرة، وهكذا ظهرت إلى جانب مصطلح التنمية الاقتصادية عدة مسميات كالتنمية الاجتماعية، والتنمية البشرية المستديمة، والتنمية الإنسانية. كما عرف الخطاب التنموي بروز عدة مفاهيم تعنى بتحديد نطاق التنمية من قبيل التنمية القطرية (الوطنية)، والجهوية (الإقليمية)، والتنمية المحلية. وهي كما نلاحظ مل فتئت تسعى إلى حصر مجال التنمية أو نطاقها في حدود ومجالات ترابية أصغر.
ولقد ظلت مسألة التنمية تطرح أساسا على الصعيد الوطني إلى حدود الحرب العالمية الثانية في العالم المصنع وإلى حدود الستينات في أغلب دول العالم الثالث، لكن الوعي المتنامي بالتفاوت الإقليمي أدى إلى أخذ المسألة الإقليمية بعين الاعتبار مع مطلع الستينات والسبعينات في جل الأقطار المصنعة منها والنامية على السواء، كما أن المسألة المحلية لم تطرح إلا مع بداية الثمانينات .
حيث توجهت التنمية منذ مطلع الثمانينات إلى أن تكون داخلية ذاتية تساهم فيها جميع فئات المجتمع، وتستجيب إلى ما يحتاج إليه السكان مع التخلي عن الأعمال التنموية المتفرقة وغير المنظمة فضلا عن ضرورة إحياء مراكز محلية تستغل استغلالا أمثل الموارد الطبيعية والبشرية المحلية.
كما توجه الاعتناء إلى التنمية الريفية مع التقليل من أهمية التخطيط، ومع تركيز هياكل إدارية تعنى باللامركزية ومنح الأجهزة الإدارية المحلية صلاحيات أوسع .
كما ساهمت المنظمات غير الحكومية منذ ما يزيد على العقدين في ترسيخ الاقتناع بأهمية التنمية المحلية من خلال برامج التنمية الذاتية والتضامن وتثبيت السكان في مواقعهم الأصلية والمحافظة على البيئة وتهيئة المجال المحلي وإسناد برامج التنمية الحكومية التي تبنتها ونفذتها في المناطق الفقيرة والمعزولة.
وباعتمادها على تصورات وطنية، وخارجية أحيانا، وبتشريك السكان المستفيدين والمتطوعين كذلك، تستهدف المنظمات المذكورة إرساء قواعد المجتمع المدني والتقاليد الديمقراطية. وبانخراطها في شبكات عالمية تجعلها تملي أحيانا التصورات والبرامج وتقدم التمويلات الإضافية أو تصرف المساعدات البيحكومية والهبات شأنها شأن الوسيط، تساهم هذه المنظمات غير الحكومية من خلال عملها المحلي في دمج بلدان العالم الثالث في المنظومة العالمية .
2- مفهوم وأهداف التنمية المحلية:
ظهر مفهوم التنمية المحلية بعد ازدياد الاهتمام بالمجتمعات المحلية لكونها وسيلة لتحقيق التنمية الشاملة على المستوى القطري، فالجهود الذاتية والمشاركة الشعبية لا تقل أهمية عن الجهود الحكومية في تحقيق التنمية، عبر مساهمة السكان في وضع وتنفيذ مشروعات التنمية، مما يستوجب تضافر الجهود المحلية الذاتية والجهود الحكومية لتحسين نوعية الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية للمجتمعات المحلية، وإدماجها في التنمية القطرية .
وهكذا انطلقت التنمية المحلية من فكرة أساسية تؤكد أن التوجه التنموي التعصيري الانتاجوي قد أهمل الوسط الفلاحي والمعارف المحلية التقليدية التي اكتسبتها المجتمعات الريفية التقليدية على مدى قرون، لذا أصبحت هذه المعارف (منذ مطلع الثمانينات وبالنسبة إلى العديد من المؤسسات المختصة في التعاون الدولي) محل دراسة ومصدر استلهام للعمل التنموي باعتبارها قابلة للتطوير، ذلك لأن المجتمعات التقليدية ليست في الواقع جامدة بل تتطور باستمرار وهي قابلة للتكيف مع ما تشهده من ظروف جديدة. ويمكن في هذا الصدد إعادة الاعتبار لطرق العلاج التقليدية، وطرق استغلال الموارد الغابية والمائية والفلاحية المتاحة محليا .
ويقوم مفهوم التنمية المحلية على عنصرين رئيسيين هما :
* المشاركة الشعبية في جهود التنمية المحلية، والتي تقود إلى مشاركة السكان في جميع الجهود المبذولة لتحسين مستوى معيشتهم ونوعية الحياة التي يعشونها معتمدين على مبادراتهم الذاتية.
* توفير مختلف الخدمات ومشروعات التنمية المحلية بأسلوب يشجع الاعتماد على النفس والمشاركة.
أما من حيث الأهداف المرجوة منها فإن التنمية المحلية تهدف إلى الآتي :
* تطوير عناصر البنية الأساسية كالنقل والمياه والكهرباء حيث يعتبر النهوض بهذه القطاعات أساسا لعملية التنمية ولتطوير المجتمع المحلي.
* زيادة التعاون والمشاركة بين السكان مما يساعد في نقل المواطنين من حالة اللامبالاة إلى حالة المشاركة الفاعلة.
* زيادة حرص المواطنين على المحافظة على المشروعات التي يساهمون في تخطيطها وتنفيذها.
إن التنمية المحلية تعمق مبدأ المشاركة في التنمية بهدف تحقيق ديمقراطية التنمية المحلية. فمنطلق التنمية المحلية إذن هو تبني مبدأ البناء من أسفل، بأن نجعل من تنمية الجماعات المحلية نقطة الانطلاق الأساسية لتنمية المجتمع ككل. فكيف إذن تساهم اللامركزية في تحقيق ذلك ؟
ثالثا: دور اللامركزية في تحقيق التنميةالمحلية
بما أن اللامركزية هي الحالة أو الوضع الذي يعطى فيه حق المشاركة في اتخاذ القرار للمستويات الإدارية الدنيا، دون أن يلغي ذلك حق الجهة المركزية في اتخاذ القرار، فهي إذن أسلوب في العمل يقوم على مبدأ توزيع سلطة صنع القرار والصلاحيات بين السلطة المركزية وهيئات أخرى مستقلة تتواجد في الأقاليم والتجمعات السكانية المختلفة، وهذا يعني أن اللامركزية الإدارية تتمثل في تفعيل دور السلطات الإقليمية والمحلية، وذلك بإسناد مهام إدارية وتنموية لها تزيد من فاعليتها، وتعزز دورها في تحمل مسؤولياتها وصلاحياتها بالشكل الذي يعمل على دمج السكان المحليين في عمليات التنمية المحلية ويؤدي في النهاية إلى نجاحها .
1- اللامركزية كإطار ملائم للتخطيط وتنفيذ التنميةالمحلية
إن الجانب الإداري في عملية إعداد وتنفيذ ومتابعة خطط التنمية عامةً، والتنمية المحلية خاصة قضية يجب التعامل معها على أنها أساسية وضرورية لنجاح هذه الخطط في تحقيق أهدافها، إذ أن فشل كثيـر من خطط التنمية وبالذات الريفية منها في العديد من دول العالم النامي ناجم بالأساس عن الأساليـب الإداريـة المتبعـة في إدارة خطـط التنمية أثناء تنفيذها وليس عن فقـر في محتوى عملية التخطيـط نفسهـا.
على صعيد آخر فإن الإدارة هي التي تبرز أهمية التخطيط اللامركزي مقارنة بالتخطيط القطاعي، وهي الوسيلة الوحيدة التي يتم من خلالها تحويل الأهداف القطاعية إلى إطار عام يصلح كاستراتيجية تنمية محلية تسمح بتحقيق المشاركة الشعبية، وتضمن الترابط والانسجام والتكامل بين الهيئات والمؤسسات المعنية بإعداد وتنفيذ خطط التنمية المحلية، لذلك فإن هيئات التخطيط الرسمية في المستوى الإقليمي والمحلي يجب أن تمتلك السلطة والكفاءة الإدارية العالية التي تمكنها من القيام بدورها على أكمل وجه.
إن عملية التخطيط في ظل اللامركزية الإدارية يجب أن تعني تفعيل المشاركة الشعبية ودور المجموعات المستهدفة في عمليات إعداد وتنفيذ خطط التنمية المحلية، وهذا ما يعرف بأسلوب التخطيط من أسفل، فالتخطيط والبناء من أسفل يعمل على تحقيق مبدأ رئيس من مبادئ التنمية الناجحة كما يراها إيمانويل صن وهذا المبدأ يتمثل في تعزيز الحرية، ولكن ليس بمفهومها السياسي فقط، وإنما بمفهومها الإنساني الشامل الذي يسمح ويعظم من قدرة الإنسان على الاختيـار .
كما أن التخطيط من أسفل يساعد في تحديد أهداف التنمية الإقليمية التي تعكس خصوصية الإقليم قيد التخطيط، ودائماً هناك فرق كبير بين أهداف التنمية الإقليمية التي تضعها هيئات ومؤسسات تخطيط إقليمية، وأهداف التنمية الإقليمية التي تضعها هيئات التخطيط المركزي، وإن كانت الأولى يجب أن تكون مكملة ومنسجمة مع الثانية وغير متناقضة معها.
إن تطبيق الإدارة اللامركزية بفاعلية في مجال التخطيط والتنمية المحلية، يعمل على تطويع برامج التنمية بسهولة إزاء حاجات السكان المحليين ومتطلباتهم، نظراً لأنها تسمح بمشاركة سكان الوحدات الإدارية المختلفة في عملية إعداد وتنفيذ الخطط التنموية لمناطقهم، كما أنها توفر دعماً ضرورياً لحشد الطاقات وتعبئة الموارد، وهذا يهيئ فرص النجاح لخطط التنمية الوطنية في تحقيق أهدافها بشكل متوازن يضمن توفير حياة ملائمة لجميع السكان في جميع المناطق داخل الدولة، ويسهم هذا النجاح في تحقيق التوازن الإقليمي وتقليل الفوارق الاقتصادية والاجتماعية الإقليمية، وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على توزيع سلطة صنع القرار بين هيئات التنمية والتخطيط المركزية ونظيرتها المحلية، وذلك على اعتبار أن توزيع الاستثمارات والموارد ورصدها في مجتمع ما له علاقة وثيقة بتوزيع سلطة صنع القرار فيه.
2- اللامركزية وتوسيع خيار المشاركة والديمقراطية المحلية:
يعتبر الكثير من فقهاء القانون الإداري أن اللامركزية ليست أسلوبا إداريا صرفا إنما شكل من أشكال وجود السلطة، باعتبارها وثيقة الصلة بنمط الحكم القائم ودرجة تركيز السلطة ونمط العلاقات القائمة بين الدولة والمجتمع .
ويساعد تبني الخيار اللامركزي على تحسين إدارة الحكم عبر تعزيز المساءلة والمشاركة والشفافية، لذلك اعتمدته العديد من الدول النامية في مختلف أنحاء العالم بهدف بناء قدرتها الإدارية والمؤسسية، ويؤكد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أن إدارة الحكم الرشيد تتطلب مشاركة الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، فمن دون المشاركة من أدنى إلى أعلى لن تتمكن أجهزة الحكم المحلي من هيكلة أو إدارة الخدمات العامة وتحقيق التنمية المحلية.
وكلما صغر النطاق الجغرافي للمجتمع، زادت قدرة الناس على المشاركة الفعالة في نسق للحكم الرشيد وقل احتمال إهمال "الأطراف" نتيجة لسيطرة "المركز" على المجتمع كله، وهي من آفات الحكم في البلدان النامية. إذ تخلق إدارة الحكم اللامركزي فرصا أكثر لمشاركة الناس وإسهامهم.
وفي أنظمة الحكم الديمقراطي يكون الحكم المحلي ميدانا لتبلور قدرات المساهمة في مجالات الحكم المختلفة، وبروز العناصر القادرة على المساهمة في الحكم المركزي، كما ينظر إلى عملية صنع القرار على المستوى المحلي كأحد أوجه المشاركة الشعبية يعبر عنه بـ"البعد المحلي للديمقراطية" أو "الديمقراطية المحلية" التي تعد إحدى المؤشرات الأساسية لنموذج الحكم الرشيد الذي يراد له اليوم أن يمثل الإطار المرجعي للإصلاح السياسي والمؤسسي في الدول النامية، وفي هذا الصدد يعتبر ألكسيس دي توكفيل أن الهياكل البلدية هي بالنسبة للديمقراطية بمثابة المدارس الابتدائية بالنسبة للعلم .
وتكمن الفكرة الأساسية للامركزية في أن القرارات العامة يجب اتخاذها إذا أمكن على مستوى السلطة الأقرب إلى الناس، إذ يملك قاطنو منطقة معينة الحق والمسؤولية في اتخاذ قرارات بشأن المسائل التي تؤثر فيهم مباشرة والتي يستطيعون اتخاذ قرارات في شأنها.
وفي مقدور أجهزة الحكم المحلي أن تكون أكثر تجاوبا وتكيفا مع الأوضاع المحلية الأمر الذي يؤدي إلى فاعلية أكبر، فالإداريين المحليين يوفرون مجالا أفضل وأكثر راحة، ويضعون المؤسسات الحكومية مباشرة في متناول السكان الذين تخدمهم.
وتمثل البلديات مسرحا لتجسيد التعاون والتضامن، بدءا بالاتصال المباشر بالناس، وكذلك مع المنظمات والجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية، عبر أطر تضمن الديمقراطية والمشاركة في آن واحد. فالمشاركة الشعبية ضرورية لإيجاد المساءلة داخل المؤسسات المحلية والتجاوب مع حاجات المجتمع المحلي.
لكن تطبيق سياسة اللامركزية ليس حلا سحريا لكل المشاكل التنموية على المستوى المحلي، وإنما تواجهه جملة من التحديات.
3 – تحديات تطبيق سياسة اللامركزية
إن اللامركزية بحد ذاتها لا تضمن إدارة أفضل للحكم، ففي الواقع تخلق اللامركزية غير الفاعلة أو غير الملائمة من المشكلات أكثر مما تحل، ولذا يتحتم تطبيق اللامركزية بعناية من أجل ضمان فاعلية للمؤسسات المحلية.
فقد تكون اللامركزية غير ملائمة أحيانا، وبالتالي تقود إلى تدني نوعية إدارة الحكم، ففي الدول الصغيرة جدا يحقق الحكم المركزي فاعلية أكبر عبر تنسيق عمل الحكومة المركزية، بدلا من إيجاد كيانات محلية مستقلة ذاتيا، وقد تقود اللامركزية إلى خسائر في وفورات الحجم وإلى عدم الاستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي. كما يمكن للامركزية الضريبية أن تستنزف الإيرادات المركزية حين تعجز الحكومة الوطنية عن ضبط الإنفاق العام. وقد تفتقر الحكومات المحلية إلى القدرة والخبرة الموجودتين لدى المؤسسات الوطنية.
لكن في المقابل قد يؤدي تطبيق اللامركزية من دون الانتباه الدقيق للامركزية الضريبية إلى انتكاس جهود الإصلاح فمن دون سيطرة أجهزة الحكم المحلي على إيراداتها وميزانياتها لن تتمكن من العمل باستقلال ذاتي، فالإيرادات المحلية تخلق قدرة رأسمالية يمكن إعادة توزيعها على البنية التحتية العامة وعلى الاقتصاد العام.
إن تنفيذ خطط ضريبية وخطط فاعلة للإيرادات تفترض مسبقا عملية تاريخية طويلة في مجال بناء الدولة، مما يعزز أهمية وفاعلية التخطيط والتصميم عند تطبيق اللامركزية.
من جهة ثانية توجد حجج متعارضة حيال تأثير اللامركزية على وحدة الدولة؛ إذ يذهب الكثير من الباحثين إلى أن اللامركزية تشكل خطرًا على الوحدة الوطنية لأنها تضعف الولاء للدولة، وتشجع ظهور حركات انفصالية. بينما يرى آخرون أن اللامركزية تزيد "الاستقرار السياسي والوحدة الوطنية عبر السماح للمواطنين بالتحكم في البرامج السياسية بشكل أفضل على المستوى المحلي" .
خلاصة واستنتاجات:
تمثل اللامركزية - بما تمنحه من صلاحيات أوسع للهيئات المحلية - إطارا ملائما لإشراك المجتمعات المحلية في تخطيط وتنفيذ ومتابعة تنميتها الذاتية، كما تساهم اللامركزية في نشر الديمقراطية ومشاركة مختلف الفاعلين في العملية التنموية، والتي أصبح المجال المحلي خلال العقود الثلاثة الأخيرة إطارها الأنسب. بهدف تحقيق استغلال أمثل للموارد الطبيعية المحلية المتاحة والكامنة، وتشغيل الأيدي العاملة المحلية.
ولعل مساهمة اللامركزية في تحقيق التنمية المحلية تتجلى في كونها تساعد على:
- الحد من البيروقراطية الإدارية وتسريع وتسهيل عملية صنع القرار الإداري والتنموي، مما يساهم في إيجاد توزيع عادل نسبياً لسلطة صنع القرار والاستثمارات والموارد داخل الدولة .
- تنازل هيئات الحكم المركزية عن جزء من صلاحيتها لصالح هيئات حكم محلية، هذه الهيئات التي تتعايش مع مشكلات السكان المحليين بشكل مستمر وتدرك أسبابها وأبعادها، وهذا الوضع يمنح هذه الهيئات القدرة على ربط برامج ومشاريع التنمية بالحاجات المتعددة والمتناقضة للمناطق والأقاليم والشرائح السكانية المختلفة، وبالتالي يضمن تحقيق أهداف خطط التنمية الوطنية بصورة فاعلة وإيجابية.
- إيجاد الاتصال المباشر والمستمر بين هيئات التخطيط التنموي والسكان، وهذا يُمكّن القائمين على التخطيط من الحصول على بيانات أكثر دقة حول أوضاع مناطقهم، ويساعد على إعداد وتنفيذ خطط تنموية واقعية وفعالة ومؤثرة.
- إيجاد توزيع عادل لمكاسب التنمية، وتحسين المستوى التنموي والخدمي في جميع مناطق البلد؛ من خلال وصول الموارد والاستثمارات إلى جميع مناطق وأقاليم الدولة، وهذا يقلل من حدة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية الإقليمية.
- تخفيف العبء الإداري والتنموي عن مؤسسات وهيئات الحكومة المركزية؛ حيث تخلصها من العديد من المهمات والصلاحيات بإسنادها إلى هيئات إقليمية ومحلية، وهذا الوضع يمكن هيئات التخطيط المركزية من أخذ الوقت الكافي في الإشراف بشكل فعلي وعملي على متابعة خطط التنمية المختلفة.
- ترسيخ مبدأ الديمقراطية وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار التنموي على المستوى المحلي، وذلك على اعتبار أن اللامركزية هي شكل من أشكال وأسس العملية الديمقراطية.
A découvrir aussi
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 2 autres membres