الأحزاب الإدارية أو "اللي داير بيَّا"

"ظل السلطان سريع الزوال" حكمة عربية
إحداث أحزاب سياسية من طرف جهاز الدولة ليس آلية طارئة في المسار السياسي المغربي، لقد ألف المغاربة خلق أحزاب سياسية بقرار إداري من أجهزة الدولة وبرعاية صناع القرار مع كل مناسبة انتخابية، من إنشاء جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية برئاسة صديق الملك الراحل أحمد رضا اكديرة في منتصب الستينيات، إلى خلق حزب التجمع الوطني للأحرار في بداية النصف الثاني من السبعينيات، إلى ابتداع حزب الاتحاد الدستوري في نهاية النصف الأول من الثمانينيات.. وهي الأحزاب التي ظلت تتعرض إلى انشقاقات قيصرية وبقرار إداري لمشيئة لا يعلمها إلا الساهر عليها..
لذلك لم يأتي العهد الجديد بأي بدعة ولا أي إبداع سياسي حين عمدت الدولة إلى تأسيس حزب أغلبي في نهاية العقد الأول من حكم محمد السادس!
لكن ثمة اختلافاً دقيقا في مرحلتي إنشاء الحزب أغلبي بقرار إداري للسلطة السياسية، وهي أنه طيلة عقود النصف الثاني من الألفية الثانية، كان النظام السياسي يخلق أحزابا سياسية يظل أمر تدبير شؤونها التنظيمية وقراراتها السياسية رهين بيد السلطة السياسية، وكانت وزارة الداخلية على عهد إدريس البصري، هي المتحكم في دعم وتمويل الحزب الإداري وإعلامه، وهي القناة الأساسية لإملاء القرار السياسي الذي ترتديه الدولة، لم يكن زعماء الأحزاب الإدارية قادرين على اتخاذ أي قرار سياسي خارج التعليمات أو الإملاءات، أو انتظار الإشارات من أعلى، وحتى حين كان يتصارع قياديو الحزب الإداري نفسه، كانوا يلجأون إلى بيت وزير الداخلية للشكوى والتظلم أو التصالح خارج القواعد التنظيمية والمقررات القانونية المنظمة التي كان يتم المصادقة عليها في مؤتمرات شكلية.. في حين أن خلق الحزب الأغلبي في العهد الجديد، اتسم بقلب المعادلة، فليست الإدارة التي خلقت الحزب الجديد هي من ظلت تتحكم في قراراته، بل على العكس من ذلك فقد أضحى الحزب الأغلبي هو الذي يتحكم في الإدارة، فما حدث خلال انتخابات 2009 وما تلاها، أبرز بالملموس أن الأقطاب المؤسسين لهذا الحزب أصبحت لهم اليد الطولى في قرارات الدولة، ولهم سلطة على كل دواليبها، بيدهم مفاتيح السجن يُدخلون إليه من خالف مشيئتهم أو عارض الانضمام إلى حزبهم، أو أبدى "قْصُوحِية رأس" زائدة عن اللزوم.. ويمتلكون نفوذاً في أجهزة الداخلية والعدل.. ولهم قدرة خارقة على قلب التحالفات الناتجة عن أغلبيات مريحة في كافة الجماعات المحلية!
وبعبارة واحدة، فقد أضحت الإدارة التي خلقت حزبها الأغلبي، رهينة بيد هذا الحزب عوض أن تظل هي المتحكم في بنيته التنظيمية وقراراته السياسية، وهنا مصدر الخطورة التي كانت ستحول حزبا إداريا إلى حزب حاكم على شكل الحزب الوطني في مصر والحزب الدستوري في تونس.. ولعل أحد فضائل حركة 20 فبراير أنها نجحت نسبيا في رد الحزب الأغلبي إلى حجمه "الطبيعي".. لم يوقف الربيع الديمقراطي السوء الأصلي، لكنه نجى المغرب من الأسوإ.
وحتى حين تم الإعلان عن تشكيل تحالف مجموعة الثمانية (G8) لم ينظر العديدون بعين الرضى لإخراج تشكيلة متناقضة التوجهات بين الخضر والعمالي والليبرالي والاشتراكي والإسلامي و...إن الأمر يبدو كما لو أنه إعادة تمويه المشروع الأصلي !
ولأن النواة الأساسية كلها تضم أحزاباً خرجت من رحم الإدارة المغربية، وهي الأقطاب التي شكلت النواة لتحالف الثمانية كما يمثلها حزب الأحرار والاتحاد الدستوري وحزب الأصالة والمعاصرة، فإن الأمر لا يعدو أن يكون استعادة الإدارة لشتاتها الحزبي وإحياء مخَطط فؤاد عالي الهمة الذي كان ينوي الانطلاق من حزب التجمع الوطني للأحرار قصد القيام بِمسح الطاولة وإعادة "العزلة" في المشهد الحزبي أمام تهديدات اكتساح إسلاميي بن كيران للانتخابات القادمة ، أو هذا ما تم الإيهام به حقيقة !
إن صلاح الدين مزوار الطارئ على السياسة والذي حاول بناء تاريخ من الأوهام منذ ادعائه الانتماء إلى 23 مارس في الزمن السياسي الحارق، ليس إلا القناع الخارجي لمهندسي الحزب الأغلبي في شكله القادم، ذلك أن السلطة السياسية في المغرب ظلت تحس نوعا ما بـ "قلق الخصاء"... تلك العقدة التي يفسرها النفسانيون بالشعور بالتهْديد الدائم الذي يأتي من الخارج، من سلطة مضادة ما، حيث لا ترى في الديمقراطية حصانة للتعدد والاختلاف، بل تعتبرها شكلا من المهانة والعجز والرضوخ والاستسلام.. ولأن السلطة عندنا تخاف دوماً أن يهجرها الآخرون ويتخلون عنها أو يقضون عليها، فهي تستعين دوماً بواقيات لتأمين توازنها الوجودي.. من هنا حاجتها الأبدية إلى خلق أحزاب تدور بها وتحميها، لكن مع الخطر الذي أسقط أنظمة متجذرة وقوية بحجم نظام مبارك وبن علي، نتساءل هل الملكية في المغرب في حاجة إلى أغلبية إدارية في الوقت الذي يحميها فيه جموع المغاربة؟
نتمنى أن يكون ما حدث على عهد محمد السادس من خلق حزب إداري أغلبي مجرد استثناء لا قاعدة أساسية للحكم، لنطمئن إلى الآتي.
A découvrir aussi
- التنمية البشرية بالمغرب
- تعديل الدستور في المغرب: إصلاح أم احتواء ال
- التحولات الإجتماعية و النخبة السياسية با
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 2 autres membres