التسيير الجماعي والديموقراطية التشاركية
ترتكز الديمقراطية بشكل عام على جعل الإنسان أساس تنمية مستدامة، فكل المنطلقات الفكرية، السياسية والاقتصادية تنطلق من الفرد لتعود إليه بدءا بالديمقراطية بمفهومها العام والديمقراطية المحلية بشكل خاص. والواقع أن الديمقراطية المحلية اعترتها مقاربتين أكادميتين أساسيتين:
أولهما تنظر إلى مسالة تحقيق ديمقراطية محلية ترتكز بالأساس على ضرورة وجود نظام سياسي قوي بإمكانه دفع المؤسسات المحلية المنتخبة الى بلورة ديمقراطية تشاركية وتشاورية.
وثانيهما: إدراك الأفراد بأهمية المسالة الديمقراطية في حياتهم المجتمعية: إن الديمقراطية تتطلب نوعا معينا من المواطنين يشعرون بأنهم مسؤولون عن شيء يتعدى زاويتهم الصغيرة المريحة، مواطنين يريدون المشاركة في شؤون المجتمع ويصرون على ذلك، مواطنين من أصحاب الإرادة القوية، بحيث يبدي المواطنون اهتماما خاصا بخدمة الصالح العام بل الذهاب إلى ابعد من ذلك للقيام بالعديد من الأنشطة الساعية إلى المصلحة العامة على مختلف أنواعها، من انتخابات وخلق تنظيمات سياسية وتشكيل الجمعيات والانضمام إلى مجموعات المصالح الخاصة، فهذه الأعمال تعبر عما سماه المنظر السياسي البريطاني هارولد لاسكي "تشكيلة الإرادات الإنسانية المنيعة التي لا يمكن طمسها".
من هنا تأتي أهمية مساءلة موضوع التسيير الجماعي والمسالة الديمقراطية وفق الميثاق الجماعي الجديد 17.08 على اعتبار أن الجماعة المحلية غدت منطلقا محوريا لبناء الدولة الديمقراطية مثلما أمست مقياسا دالا حول قدرة الفاعلين السياسيين على إتباع منهج الحكامة المحلية الجيدة.
تقودنا هذه التوطئة إلى تسليط الأضواء على جملة من التساؤلات المركزية يأتي في مقدمتها :
كيف يمكن للجماعات المحلية أن تبلور تنمية مستدامة على مختلف الأصعدة على اعتبار أن الديمقراطية لا تشمل فقط الجوانب السياسية بل تمتد إلى الأخذ بجملة من الاعتبارات كضمان المساواة في الحقوق السياسية، الاقتصادية والاجتماعية أي المساواة في الفرص وفي شروط تحقيق هذه الشروط والى أي حد تضمن مقتضيات الميثاق الجماعي مشاركة فاعلة وفعالة للناخب والمنتخب في اتخاذ القرارات على المستويين المحلي والوطني؟
وهل من شان المزج بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية أن يبلور حكامة جيدة؟
وهل البعد التشاركي للمجتمع المدني حاضر في مقتضيات هذا القانون الجديد؟
إن جوهر الديمقراطية التشاركية يكمن في جعل المواطن أساس أي فعل مجتمعي تعاقدي، ويأتي تدبير الشأن العام المحلي على رأس أولويات هذا الفعل، فبدون إشراك فاعل وفعال للمواطن في تدبير شؤونه وطنيا ومحليا تفرغ الديمقراطية من محتواها الجوهري على اعتبار أن كنه الديمقراطية هو حكم الشعب للشعب بواسطة الشعب. إن احترام عقلية القارئ تحتم على الباحث التدقيق اللغوي والاصطلاحي في مفهوم أساسي ألا وهو مفهوم الديمقراطية التشاركية التي تعرف كذلك باسم الديمقراطية التشاورية وتسعفنا أعمال الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في الإحاطة بهذا المفهوم الذي يصنفه إلى ثلاثة حقوق يتمتع بها كل المواطنين في الدولة دونما أدنى تمييز، وهذه الحقوق هي :
الحقوق السياسية، الحقوق المدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
في مقابل هذه الحقوق فان المواطن مطوق بواجبات أبرزها، المساهمة في تدبير الشأن العام من خلال وجود منتخب واع ومسؤول وناخب مواطناتي يعي حقوقه وواجباته، مثلما يستبطن أهمية انخراطه في مجتمع المواطنة، فبدون إيمان المواطن بدوره الفاعل والفعال في تدبير الشأن العام المحلي بمقاربة سياسية لا سياسوية وبدون إنكار للذات، يغدو الحديث عن مشاركة تشاركية ضربا من ضروب الطوباوية السياسية، إن الديمقراطية تتطلب نوعا معينا من المواطنين يشعرون بأنهم مسؤولون عن شيء يتعدى زاويتهم الصغيرة المريحة، مواطنين يريدون المشاركة في شؤون المجتمع ويصرون على ذلك، مواطنين من أصحاب الإرادة القوية، يؤمنون بأفكارهم عن الديمقراطية على مستوى عميق، كما تتطلب إذكاء سلوك المواطنة الحقة، والتشبث بالثوابت الأساسية للدولة لأنها عنوان المواطنة الحقة.
إن نجاح الديمقراطية التشاركية في تدبير الشأن العام المحلي يقوم على إدراك الدولة بضرورة تخويل الشأن العام للمواطن، وهنا ينبغي للدولة إن توفر المناخ المشجع على الانخراط في تدبير الشأن العام مثلما ينبغي لها أن تؤطر هذا المجال بإطار قانوني يسمح للمواطنين بالاندماج السلس في مختلف المؤسسات المحلية المنتخبة.
لقد غدت الديمقراطية المحلية خيارا استراتيجيا لا محيد عنه للاعتبارات التالية:
أولا : تطور مفاهيم الديمقراطية ومبادئ تكافئ الفرص الاجتماعية، أفقيا: بين جهات ومناطق ومجالات المجتمع... وعموديا: بين مختلف أفراده وطبقاته وشرائحه وفئاته المتعددة والمتباينة المصالح والمواقع والأدوار...
ثانيا: تبلور المفاهيم المرتبطة بالتنظيم العقلاني للمجتمع، وذلك على اعتبار إن هذا التنظيم كمفهوم جديد، يقوم على إستراتيجية بناء تنظيم المؤسسات والمجالات الاجتماعية على أساس عقلاني رشيد يرتكز، في سياسة إسناد المهام والوظائف والمسؤوليات. لقد شكلت هذه الفلسفة التنظيمية نقلة نوعية في المجتمع الحديث، ليس فقط على مستوى الفكر، بل على مستوى الممارسة الاجتماعية كذالك.
ثالثا: توسيع وعاء المشاركة السياسية: إن هذه الشروط تدعم الصيرورة الديمقراطية لصنع القرار المحلي، الذي سوف لن يصبح، في إطار هذا التخطيط العقلاني المتكامل، خاضعا لرغبات او أهواء او مصالح محدودة ولا عقلانية، بل سوف يتم في إطار عقلاني منظم، تشارك فيه كل الأطراف والفعاليات والمكونات المعنية في المجتمع.
رابعا: تحولات في وظائف الدولة: أفضى التحول في وظائف الدولة إلى بروز ادوار طلائعية للمؤسسات المحلية، فالدولة التي تم اعتبارها وبشكل واسع أداة لحل المشاكل، غدت الآن هي ذاتها مشكلة، فمقولة دانييل بيل تبدو صامدة جدا في عالمنا المعاصر حينما أشار إلى أن الدولة أصبحت كبيرة بالنسبة إلى القضايا الصغيرة، وصغيرة بالنسبة إلى القضايا الكبرى.
خامسا: المفهوم الجديد للسلطة والإدارة الترابية المحلية: على اعتبار أن الثقافة الجديدة المبلورة للمفهوم الجديد للسلطة لا تستهدف فقط تحفيز الإصلاح على صعيد اللامركزية والحكامة وتحديث الإدارة حيث تشكل الحكامة المحلية الرشيدة إحدى الركائز الإستراتيجية المرتبطة ببلورة التنمية المستدامة والمنصفة للمجالات الترابية المحلية، وإنما ترمي كذلك إلى تقوية البعد التشاركي للمواطن في مجال تدبير الشأن المحلي، بحيث تمكن مختلف مكونات المجتمع من إيصال صوتها وتفعيل مسالة التعاقد بين المنتخبين والناخبين. وهو الأمر الذي أشار إليه جلالة الملك محمد السادس بالقول 'سيرا على هذا النهج القويم وبعون من الله وتوفيقه كان منطلقنا مولين كبير اهتمامنا لترسيخ دولة الحق والقانون. فأعطينا مفهوما جديدا للسلطة يجعلها ترعى المصالح العمومية وتدبير الشؤون المحلية وتحفظ الأمن والاستقرار وتسهر على الحرية الفردية والجماعية وتنفتح على المواطنين في احتكاك مباشر بهم ومعالجة ميدانية لمشاكلهم وإشراكهم في هذه المعالجة، وهو مفهوم يتسم بالشمول والتكامل، وكل لا يتجزأ، وبنيان مرصوص يشد بعضه بعضا، فلا حرية بدون امن ولا استقرار، ولا تنمية في غياب السلم الاجتماعي وتدبر ديمقراطي للشؤون المحلية بدون احتكاك يومي بالموطن وأشاكه في معالجتها.
A découvrir aussi
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 2 autres membres